وقوله : ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ) ، وذلك حين أبوا أن يكتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " ، وأبوا أن يكتبوا : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " ، ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى ) ، وهي قول : " لا إله إلا الله " ، كما قال ابن جرير ، وعبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة ، عن ثوير ، عن أبيه عن الطفيل - يعني : ابن أبي بن كعب [ رضي الله عنه ] - عن أبيه [ أنه ] سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال : " لا إله إلا الله " .
وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة أخبره ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله ، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله " ، وأنزل الله في كتابه ، وذكر قوما فقال : ( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ) [ الصافات : 35 ] ، وقال الله جل ثناؤه : ( وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها ) وهي : " لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " ، فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية ، وكاتبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قضية المدة .
وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري ، والله أعلم .
وقال مجاهد : ( كلمة التقوى ) : الإخلاص . وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير .
وقال يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور : ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن عباية بن ربعي ، عن علي : ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر . وكذا قال ابن عمر ، رضي الله عنهما .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال : يقول : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي رأس كل تقوى .
وقال سعيد بن جبير : ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال : لا إله إلا الله والجهاد في سبيله .
وقال عطاء الخراساني : هي : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن معمر عن الزهري : ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال : بسم الله الرحمن الرحيم .
وقال قتادة : ( وألزمهم كلمة التقوى ) قال : لا إله إلا الله .
( وكانوا أحق بها وأهلها ) : كان المسلمون أحق بها ، وكانوا أهلها .
( وكان الله بكل شيء عليما ) أي : هو عليم بمن يستحق الخير ومن يستحق الشر .
وقد قال النسائي : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا شبابة بن سوار ، عن أبي رزين ، عن عبد الله بن العلاء بن زبر ، عن بسر بن عبيد الله ، عن أبي إدريس ، عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ : ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ) [ الفتح : 26 ] ، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام . فبلغ ذلك عمر فأغلظ له ، فقال : إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيعلمني مما علمه الله . فقال عمر : بل أنت رجل عندك علم وقرآن ، فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله .
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية يريد زيارة البيت ، لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبست جلود النمور ، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله [ عليهم ] دخلوا في الإسلام وهم وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة " . ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة . قال : فسلك بالجيش تلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ، ركضوا راجعين إلى قريش ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا سلك ثنية المرار ، بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما خلأت ، وما ذلك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إياها " [ ثم ] قال للناس : " انزلوا " . قالوا : يا رسول الله ، ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس . فأخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن . فلما اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة ، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، وإن محمدا لم يأت لقتال ، إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحقه ، فاتهموهم .
قال محمد بن إسحاق : قال الزهري : [ و ] كانت خزاعة في عيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشركها ومسلمها ، لا يخفون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا كان بمكة ، فقالوا : وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدا علينا عنوة ، ولا يتحدث بذلك العرب . ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هذا رجل غادر " . فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو ما كلم به أصحابه ، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] ; فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني ، وهو يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدي " في وجهه ، فبعثوا الهدي ، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله ، رجع ولم يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعظاما لما رأى ، فقال : يا معشر قريش ، قد رأيت ما لا يحل صده ، الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول الحبس عن محله . قالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك . فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي ، فقال : يا معشر قريش ، إن قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد ، وقد سمعت بالذي نابكم ، فجمعت من أطاعني من قومي ، ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي . قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم . فخرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بين يديه ، فقال : يا محمد جمعت أوباش الناس ، ثم جئت بهم لبيضتك لتفضها ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا . قال : وأبو بكر قاعد خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : امصص بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ ! قال : من هذا يا محمد ؟ قال : " هذا ابن أبي قحافة " . قال : أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها . ثم تناول لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديد ، قال : فقرع يده . ثم قال : أمسك يدك عن لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل - والله - لا تصل إليك . قال : ويحك ! ما أفظعك وأغلظك ! فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : من هذا يا محمد ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : " هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة " . قال : أغدر ، وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ؟ ! قال فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل ما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا . قال : فقام من عند رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه ، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه . فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إنى جئت كسرى في ملكه ، وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما ، والله ما رأيت ملكا قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . قال : وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك قد بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة ، وحمله على جمل له يقال له : " الثعلب " فلما دخل مكة عقرت به قريش ، وأرادوا قتل خراش ، فمنعتهم الأحابيش ، حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عمر ليبعثه إلى مكة ، فقال : يا رسول الله ، إنى أخاف قريشا على نفسي ، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني : عثمان بن عفان . قال : فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته . فخرج عثمان حتى أتى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه وردف خلفه ، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرسله به ، فقالوا لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] قال : واحتبسته قريش عندها ، قال : وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل .
قال محمد : فحدثني الزهري : أن قريشا بعثوا سهل بن عمرو ، وقالوا : ائت محمدا فصالحه ولا يكون في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا . فأتاه سهل بن عمرو فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل " . فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكلما وأطالا الكلام ، وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح ، فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، أوليس برسول الله ؟ أولسنا بالمسلمين ؟ أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلام نعطى الذلة في ديننا ؟ فقال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه حيث كان ، فإني أشهد أنه رسول الله . [ ثم ] قال عمر : وأنا أشهد . ثم أتى رسول الله فقال : يا رسول الله ، أولسنا بالمسلمين أوليسوا بالمشركين ؟ قال : " بلى " قال : فعلام نعطى الذلة في ديننا ؟ فقال : " أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني " . ثم قال عمر : ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا . قال : ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] فقال : اكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال سهل بن عمرو : ولا أعرف هذا ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم ، فقال رسول الله : " اكتب باسمك اللهم . هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، سهل بن عمرو " ، فقال سهل بن عمرو : ولو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله ، وسهل بن عمرو ، على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى رسول الله من أصحابه بغير إذن وليه ، رده عليهم ، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأنه لا إسلال ولا إغلال ، وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب : أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده ، دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد رسول الله وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم ، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك ، وأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب ، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتب الكتاب ، إذا جاءه أبو جندل بن سهل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا وهم لا يشكون في الفتح ، لرؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] على نفسه ، دخل الناس من ذلك أمر عظيم ، حتى كادوا أن يهلكوا . فلما رأى سهل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وقال : يا محمد ، قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا . قال : " صدقت " . فقام إليه فأخذ بتلابيبه . قال : وصرخ أبو جندل بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ قال : فزاد الناس شرا إلى ما بهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا ، وإنا لن نغدر بهم " . قال : فوثب إليه عمر بن الخطاب فجعل يمشي مع [ أبي ] جندل إلى جنبه وهو يقول : اصبر أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ، قال : ويدني قائم السيف منه ، قال : يقول : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال : فضن الرجل بأبيه . قال : ونفذت القضية ، فلما فرغا من الكتاب ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الحرم ، وهو مضطرب في الحل ، قال : فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا أيها الناس ، انحروا واحلقوا " . قال : فما قام أحد . قال : ثم عاد بمثلها ، فما قام رجل حتى عاد - صلى الله عليه وسلم - بمثلها ، فما قام رجل .
فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل على أم سلمة فقال : " يا أم سلمة ما شأن الناس ؟ " قالت : يا رسول الله ، قد دخلهم ما رأيت ، فلا تكلمن منهم إنسانا ، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق ، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك . فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ، ثم جلس فحلق ، قال : فقام الناس ينحرون ويحلقون . قال : حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح .
هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه ، وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد البكائي ، عن ابن إسحاق ، بنحوه ، وفيه إغراب ، وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، به نحوه وخالفه في أشياء وقد رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه ، فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة ، فقال في كتاب الشروط من صحيحه :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر : أخبرني الزهري : أخبرني عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه ، قالا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره ، وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة ، وسار حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه ، فقال : إن قريشا قد جمعوا لك جموعا ، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك . فقال : " أشيروا أيها الناس علي ، أترون أن نميل على عيالهم ، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن صدونا عن البيت ؟ " وفي لفظ : " أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم . فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقا من المشركين وإلا تركناهم محزونين " ، وفي لفظ : " فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محروبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله ، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ؟ " . فقال أبو بكر [ رضي الله عنه ] : يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت ، لا نريد قتل أحد ولا حربا ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه . وفي لفظ : فقال أبو بكر رضي الله عنه : الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فروحوا إذن " ، وفي لفظ : " فامضوا على اسم الله " .
حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين " . فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيرا لقريش ، وسار النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها ، بركت به راحلته . فقال الناس : حل حل فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، خلأت القصواء ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " . ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أعطيتهم إياها " . ثم زجرها فوثبت ، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء ، يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس حتى نزحوه ، وشكي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش ، فانتزع من كنانته سهما ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، ولينفذن الله أمره " قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشا فقال : إنا قد جئنا من عند هذا الرجل ، وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام عروة بن مسعود فقال : أي قوم ، ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى . قال : أولست بالولد ؟ قالوا : بلى . قال : فهل تتهموني ؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته . قالوا : ائته . فأتاه فجعل يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء . فقال عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تك الأخرى فإني والله لأرى وجوها ، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : امصص بظر اللات ! أنحن نفر وندعه ؟ ! قال : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها ، لأجبتك . قال : وجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب يده بنعل السيف ، وقال له : أخر يدك من لحية النبي - صلى الله عليه وسلم - . فرفع عروة رأسه وقال : من هذا ؟ قال : المغيرة بن شعبة . فقال : أي غدر ، ألست أسعى في غدرتك ؟ ! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شي " . ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعينيه ، قال : فوالله ما تنخم رسول الله [ - صلى الله عليه وسلم - ] نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه ، تعظيما له - صلى الله عليه وسلم - فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . فقال رجل منهم من بني كنانة : دعوني آته . فقالوا : ائته فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها له " فبعثت له ، واستقبله الناس يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت . فقال رجل منهم يقال له : " مكرز بن حفص " ، فقال : دعوني آته . فقالوا : ائته . فلما أشرف عليهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هذا مكرز [ بن حفص ] وهو رجل فاجر " ، فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يكلمه إذ جاء سهل بن عمرو .
وقال معمر : أخبرني أيوب ، عن عكرمة أنه قال : لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " قد سهل لكم من أمركم " .
قال معمر : قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات أكتب بيننا وبينك كتابا فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الكاتب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " [ اكتب ] : بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهل [ بن عمرو ] : أما " الرحمن " فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : " باسمك اللهم " ، كما كنت تكتب . فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا " بسم الله الرحمن الرحيم " . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اكتب : باسمك اللهم " . ثم قال : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " . فقال سهل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : " محمد بن عبد الله " ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني . اكتب محمد بن عبد الله " قال الزهري : وذلك لقوله : " والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به " . فقال سهل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهل : " وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . فقال المسلمون : سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ ! فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنا لم نقض الكتاب بعد " . قال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فأجزه لي " فقال : ما أنا بمجيز ذلك لك ، قال : " بلى فافعل " . قال : ما أنا بفاعل . قال مكرز : بلى قد أجزناه لك . قال أبو جندل : أي معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما قد لقيت ؟ ! وكان قد عذب عذابا شديدا في الله عز وجل . قال عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه : فأتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : " بلى " . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : " بلى " . قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : " إني رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري " ، قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " بلى ، أفأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ " قلت : لا قال : " فإنك آتيه ومطوف به " . قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى . قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى . قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : أيها الرجل ، إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق . قلت : أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى قال : أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال : فإنك تأتيه وتطوف به .
قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا . قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " قوموا فانحروا ثم احلقوا " . قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ! ! فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، قالت له أم سلمة : يا نبي الله ، أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات ، فأنزل الله ، عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ : ( بعصم الكوافر ) [ الممتحنة : 10 ] . فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية . ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فجاءه أبو بصير - رجل من قريش - وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا ، فاستله الآخر ، فقال : أجل ! والله إنه لجيد ، لقد جربت منه ثم جربت ، فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه فضربه حتى برد ، وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه : " لقد رأى هذا ذعرا " ، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول . فجاء أبو بصير فقال : يا رسول الله ، قد - والله - أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ويل أمه مسعر حرب ! لو كان له أحد " . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، قال : وتفلت منهم أبو جندل بن سهل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم . فأرسلت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم : " فمن أتاه منهم فهو آمن " . فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، وأنزل الله عز وجل : ( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة ) حتى بلغ : ( حمية الجاهلية ) ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت .
هكذا ساقه البخاري هاهنا ، وقد أخرجه في التفسير ، وفي عمرة الحديبية ، وفي الحج ، وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة ، كلاهما عن الزهري ، به ووقع في بعض الأماكن عن الزهري ، عن عروة ، عن مروان والمسور بن [ مخرمة ] ، عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك . وهذا أشبه والله أعلم ، ولم يسقه أبسط من هاهنا ، وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع ، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هاهنا ، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه ، والله المستعان وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .
وقال البخاري في التفسير : حدثنا أحمد بن إسحاق السلمي ، حدثنا يعلى ، حدثنا عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، قال : أتيت أبا وائل أسأله فقال : كنا بصفين فقال رجل : ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله ؟ فقال علي بن أبي طالب : نعم . فقال سهل بن حنيف : اتهموا أنفسكم ، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني : الصلح الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ فقال : " بلى " قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا ؟ فقال : " يابن الخطاب ، إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبدا " ، فرجع متغيظا ، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، ألسنا على الحق وهم على الباطل ، فقال : يابن الخطاب ، إنه رسول الله ، ولن يضيعه الله أبدا ، فنزلت سورة الفتح .
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان بن سلمة ، عن سهل بن حنيف به ، وفي بعض ألفاظه : " يا أيها الناس ، اتهموا الرأي ، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره لرددته " وفي رواية : فنزلت سورة الفتح ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب فقرأها عليه .
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن ثابت ، عن أنس ، أن قريشا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم سهل بن عمرو ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال سهل : لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف : " باسمك اللهم " . فقال : " اكتب من محمد رسول الله " . قال : لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اكتب : من محمد بن عبد الله " . واشترطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقال : يا رسول الله أتكتب هذا ؟ قال : " نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله " . رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ، به .
وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني سماك ، عن عبد الله بن عباس قال : لما خرجت الحرورية اعتزلوا ، فقلت لهم : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي : " اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، فقال رسول الله : " امح يا علي ، اللهم إنك تعلم أني رسولك ، امح يا علي ، واكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله " . والله لرسول الله خير من علي ، وقد محا نفسه ، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : نعم .
ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي ، بنحوه .
وروى الإمام أحمد ، عن يحيى بن آدم : حدثنا زهير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل ، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها .