يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم ، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم ، فقال تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة ) أي : واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة ، واقصص على قومك ذلك . وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [ وهو أبو عبيدة ] أنه زعم أن " إذ " هاهنا زائدة ، وأن تقدير الكلام : وقال ربك . ورده ابن جرير .
قال القرطبي : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج : هذا اجتراء من أبي عبيدة .
( إني جاعل في الأرض خليفة ) أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل ، كما قال تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) [ الأنعام : 165 ] وقال ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) [ النمل : 62 ] . وقال ( ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون ) [ الزخرف : 60 ] . وقال ( فخلف من بعدهم خلف ) [ مريم : 59 ] . [ وقرئ في الشاذ : " إني جاعل في الأرض خليقة " حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي ] . وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم - عليه السلام - فقط ، كما يقوله طائفة من المفسرين ، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ، وفي ذلك نظر ، بل الخلاف في ذلك كثير ، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، والظاهر أنه لم يرد آدم عينا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) فإنهم إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمإ مسنون [ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس فيما يقع بينهم من المظالم ، ويرد عنهم المحارم والمآثم ، قاله القرطبي ] أو أنهم قاسوهم على من سبق ، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك .
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [ وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقا . قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : ( أتجعل فيها ) الآية ] وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أي : إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء ، والصالحون والعباد ، والزهاد والأولياء ، والأبرار والمقربون ، والعلماء العاملون والخاشعون ، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم .
وقد ثبت في الصحيح : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون . وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام : يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) وقيل : معنى قوله جوابا لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها ، وقيل : إنه جواب لقولهم : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) فقال : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) أي : من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به . وقيل : بل تضمن قولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) طلبا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى لهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم . ذكرها فخر الدين مع غيرها من الأجوبة ، والله أعلم .
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه :
قال ابن جرير : حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قال لهم : إني فاعل . وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك .
وقال السدي : استشار الملائكة في خلق آدم . رواه ابن أبي حاتم ، قال : وروي عن قتادة نحوه . وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن ، والله أعلم .
( في الأرض ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد حدثنا عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دحيت الأرض من مكة ، وأول من طاف بالبيت الملائكة ، فقال الله : إني جاعل في الأرض خليفة ، يعني مكة .
وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مدرج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك .
( خليفة ) قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قالوا : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا .
قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) مني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه . وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه .
قال ابن جرير : وإنما [ كان تأويل الآية على هذا ] معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا .
قال : والخليفة الفعيلة من قولك ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال تعالى : ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) [ يونس : 14 ] . ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ؛ لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خلفا .
قال : وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم .
قال ابن جرير : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أول من سكن الأرض الجن ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال . ثم خلق آدم وأسكنه إياها ، فلذلك قال : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) .
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) قال : يعنون [ به ] بني آدم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق ، قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها [ ويسفك الدماء ] ؟ !
وقد تقدم ما رواه السدي ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرية آدم ، فقالت الملائكة ذلك . وتقدم آنفا ما رواه الضحاك ، عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن بكير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم ، حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فقال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) إلى قوله : ( وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) [ البقرة : 33 ] قال : خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء بينهم ، وكان الفساد في الأرض ، فمن ثم قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) كما أفسدت الجن ( ويسفك الدماء ) كما سفكوا .
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مبارك بن فضالة ، حدثنا الحسن ، قال : قال الله للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) قال لهم : إني فاعل . فآمنوا بربهم ، فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ؟ ( قال إني أعلم ما لا تعلمون )
قال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون ، فقالوا بالقول الذي علمهم .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) كان [ الله ] أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام الرازي ، حدثنا ابن المبارك ، عن معروف ، يعني ابن خربوذ المكي ، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول : السجل ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسر ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) قالا ذلك استطالة على الملائكة .
وهذا أثر غريب . وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم . ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ، وهو خلاف السياق .
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم - أيضا - حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن أبي عبد الله ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) كانوا عشرة آلاف ، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم .
وهذا - أيضا - إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم .
قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء )
وقال ابن جرير : وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) ؛ لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك ، بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة ، فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ! ؟ فأجابهم ربهم : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) يعني : أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعا .
قال : وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ، مسألة [ الملائكة ] استخبار منهم ، لا على وجه الإنكار ، واختاره ابن جرير .
وقال سعيد عن قتادة قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) فاستشار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، قال : وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ، فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال : ( ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ فصلت : 11 ] .
وقوله تعالى : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : التسبيح : التسبيح ، والتقديس : الصلاة .
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود - وعن ناس من الصحابة : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال : يقولون : نصلي لك .
وقال مجاهد : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال : نعظمك ونكبرك .
وقال الضحاك : التقديس : التطهير .
وقال محمد بن إسحاق : ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال : لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه .
وقال ابن جرير : التقديس : هو التعظيم والتطهير ، ومنه قولهم : سبوح قدوس ، يعني بقولهم : سبوح ، تنزيه له ، وبقولهم : قدوس ، طهارة وتعظيم له . ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذا : ( ونحن نسبح بحمدك ) ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك ) ونقدس لك ) ننسبك إلى ما هو من صفاتك ، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك .
[ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى ] .
( قال إني أعلم ما لا تعلمون ) قال قتادة : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى : ( قال إني أعلم ما لا تعلمون )
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه ، ويقطع تنازعهم ، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر عن تعاطي الفواحش ، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب ، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع ، والله أعلم ، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف ، وقد نص عليه الشافعي .
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال : لا يشترط ، وقيل : بلى ويكفي شاهدان . وقال الجبائي : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة ، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ، ومعقود له وهو عثمان ، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .
ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على الصحيح ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض ، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وهل له أن يعزل نفسه ؟ فيه خلاف ، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك .
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان . وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، منهم إمام الحرمين ، وقالت الكرامية : يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة ؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف ، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين في ذلك ، قلت : وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب .