اشتملت هذه الآية الكريمة ، على جمل عظيمة ، وقواعد عميمة ، وعقيدة مستقيمة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيد بن هشام الحلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن عامر بن شفي ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي ذر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الإيمان ؟ فتلا عليه : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) إلى آخر الآية . قال : ثم سأله أيضا ، فتلاها عليه ثم سأله . فقال : " إذا عملت حسنة أحبها قلبك ، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك " .
وهذا منقطع ; فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر ; فإنه مات قديما .
وقال المسعودي : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر ، فقال : ما الإيمان ؟ فقرأ عليه هذه الآية : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم ) حتى فرغ منها . فقال الرجل : ليس عن البر سألتك . فقال أبو ذر : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه ، فقرأ عليه هذه الآية ، فأبى أن يرضى كما أبيت [ أنت ] أن ترضى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده : " المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها " .
رواه ابن مردويه ، وهذا أيضا منقطع ، والله أعلم .
وأما الكلام على تفسير هذه الآية ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ، ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ; ولهذا قال : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ) الآية ، كما قال في الأضاحي والهدايا : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) [ الحج : 37 ] .
وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا . فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك .
وقال أبو العالية : كانت اليهود تقبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل . وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله .
وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله ، عز وجل .
وقال الضحاك : ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها .
وقال الثوري : ( ولكن البر من آمن بالله ) الآية ، قال : هذه أنواع البر كلها . وصدق رحمه الله ; فإن من اتصف بهذه الآية ، فقد دخل في عرى الإسلام كلها ، وأخذ بمجامع الخير كله ، وهو الإيمان بالله ، وهو أنه لا إله إلا هو ، وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله ) والكتاب ) وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ [ الله ] به كل ما سواه من الكتب قبله ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
وقوله : ( وآتى المال على حبه ) أي : أخرجه ، وهو محب له ، راغب فيه . نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا : " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر " .
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث شعبة والثوري ، عن منصور ، عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وآتى المال على حبه ) أن تعطيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر " . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
قلت : وقد رواه وكيع عن الأعمش ، وسفيان عن زبيد ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، موقوفا ، وهو أصح ، والله أعلم .
وقال تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) [ الإنسان : 8 ، 9 ] .
وقال تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] وقوله : ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) [ الحشر : 9 ] نمط آخر أرفع من هذا [ ومن هذا ] وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له .
وقوله : ( ذوي القربى ) وهم : قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة ، كما ثبت في الحديث : " الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " . فهم أولى الناس بك وببرك وإعطائك . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز .
( واليتامى ) هم : الذين لا كاسب لهم ، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب ، وقد قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن النزال بن سبرة ، عن علي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتم بعد حلم " .
( والمساكين ) وهم : الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه .
( وابن السبيل ) وهو : المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان .
( والسائلين ) وهم : الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع وعبد الرحمن ، قالا حدثنا سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين ، عن أبيها - قال عبد الرحمن : حسين بن علي - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " . رواه أبو داود .
( وفي الرقاب ) وهم : المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم .
وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة ، إن شاء الله تعالى . وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا شريك ، عن أبي حمزة ، عن الشعبي ، حدثتني فاطمة بنت قيس : أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفي المال حق سوى الزكاة ؟ قالت : فتلا علي ( وآتى المال على حبه ) .
ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، كلاهما ، عن شريك ، عن أبي حمزة عن الشعبي ، عن فاطمة بنت قيس ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في المال حق سوى الزكاة " ثم تلا ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) إلى قوله : ( وفي الرقاب )
[ وقد أخرجه ابن ماجه والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا الأعور ، قال : وقد رواه بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي ] .
وقوله : ( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) أي : وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها ، وسجودها ، وطمأنينتها ، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي .
وقوله : ( وآتى الزكاة ) يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس ، وتخليصها من الأخلاق الدنية الرذيلة ، كقوله : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) [ الشمس : 9 ، 10 ] وقول موسى لفرعون : ( هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ) [ النازعات : 18 ، 19 ] وقوله تعالى : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) [ فصلت : 6 ، 7 ] .
ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ; ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقا سوى الزكاة ، والله أعلم .
وقوله : ( والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ) كقوله : ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) [ الرعد : 20 ] وعكس هذه الصفة النفاق ، كما صح في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " . وفي الحديث الآخر : " إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " .
وقوله : ( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) أي : في حال الفقر ، وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام ، وهو الضراء . ( وحين البأس ) أي : في حال القتال والتقاء الأعداء ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو العالية ، ومرة الهمداني ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان ، وأبو مالك ، والضحاك ، وغيرهم .
وإنما نصب ( والصابرين ) على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته ، والله أعلم ، وهو المستعان وعليه التكلان .
وقوله : ( أولئك الذين صدقوا ) أي : هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم ; لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا ( وأولئك هم المتقون ) لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .