يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس ، كما نص على ذلك السدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، [ وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى : ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) الآيات ] . [ المائدة : 21 - 24 ]
وقال آخرون : هي أريحا [ ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد ] وهذا بعيد ؛ لأنها ليست على طريقهم ، وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحا [ وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر ، حكاه فخر الدين في تفسيره ، والصحيح هو الأول ؛ لأنها بيت المقدس ] . وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، عليه السلام ، وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - ( سجدا ) أي : شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، ورد بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال .
قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) أي ركعا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) قال : ركعا من باب صغير .
رواه الحاكم من حديث سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ، وهو الثوري ، به . وزاد : فدخلوا من قبل استاههم .
[ وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، واستبعده الرازي ، وحكى عن بعضهم : أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ] .
وقال خصيف : قال عكرمة ، قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة .
وقال [ ابن عباس ] ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك : هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس ، [ وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية ] .
وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق ، وقال السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن عبد الله بن مسعود : وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، أي : رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا .
وقوله : ( وقولوا حطة ) قال الثوري عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : مغفرة ، استغفروا .
وروي عن عطاء ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه .
وقال الضحاك عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : قولوا : هذا الأمر حق ، كما قيل لكم .
وقال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله .
وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى : ( وقولوا حطة ) فكتب إليه : أن أقروا بالذنب .
وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .
( نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ) هذا جواب الأمر ، أي : إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات .
وحاصل الأمر : أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى ، كما قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [ سورة النصر ] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها ، وأقره على ذلك عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه . ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ، ونعى إليه روحه الكريمة أيضا ؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر ، كما روي أنه كان يوم الفتح - فتح مكة - داخلا إليها من الثنية العليا ، وإنه الخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله ، يشكر الله على ذلك . ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى ، فقال بعضهم : هذه صلاة الضحى ، وقال آخرون : بل هي صلاة الفتح ، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله ، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات ، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل : يصليها كلها بتسليم واحد ، والله أعلم .