يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ ، فقال تعالى : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) أي : على المنبر تخطب . هكذا ذكره غير واحد من التابعين ، منهم : أبو العالية ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وقتادة .
وزعم مقاتل بن حيان : أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ، وكان معها طبل ، فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما على المنبر إلا القليل منهم . وقد صح بذلك الخبر ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر قال : قدمت عير المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها )
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سالم به
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، وأبي سفيان ، عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد ، لسال بكم الوادي نارا " ونزلت هذه الآية : ( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ) وقال : كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما .
وفي قوله : ( وتركوك قائما ) دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما . وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس .
ولكن ها هنا شيء ينبغي أن يعلم وهو : أن هذه القصة قد قيل : إنها كانت لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل : حدثنا محمود بن خالد ، عن الوليد ، أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان يقول : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة يعني : فانفضوا ، ولم يبق معه إلا نفر يسير .
وقوله : ( قل ما عند الله ) أي : الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة ( خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين ) أي : لمن توكل عليه ، وطلب الرزق في وقته .