وقوله تعالى : ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) أي : يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما ، كما في قوله : ( ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 48 ، 49 ] أي : هذا بذاك ، وهو الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ؛ ولهذا يقال : من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله ، عذب به . وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم ، عذبوا بها ، كما كان أبو لهب - لعنه الله - جاهدا في عداوة الرسول ، صلوات الله [ وسلامه ] عليه ، وامرأته تعينه في ذلك ، كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا ( في جيدها ) أي : [ في ] عنقها ( حبل من مسد ) [ المسد : 5 ] أي : تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه - كان - في الدنيا ، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها ، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة ، فيحمى عليها في نار جهنم - وناهيك بحرها - فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم .
قال سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود : والله الذي لا إله غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارا ، ولا درهم درهما ، ولكن يوسع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته .
وقد رواه ابن مردويه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، والله أعلم .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه وهو يفر منه ، ويقول : أنا كنزك ! لا يدرك منه شيئا إلا أخذه .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ، يتبعه ، يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ! ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقصقصها ثم يتبعها سائر جسده .
ورواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث يزيد ، عن سعيد به وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وفي صحيح مسلم ، من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبهته وظهره ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار وذكر تمام الحديث .
وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن حصين ، عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالربذة ، فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ قال : كنا بالشام ، فقرأت : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) فقال معاوية : ما هذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب . قال : قلت : إنها لفينا وفيهم .
ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر - رضي الله عنه - فذكره ، وزاد : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن أقبل إليه ، قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تنح قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .
قلت : كان من مذهب أبي ذر - رضي الله عنه - تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي [ الناس ] بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، وأنزله بالربذة وحده ، وبها مات - رضي الله عنه - في خلافة عثمان . وقد اختبره معاوية - رضي الله عنه - وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ؟ فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت ، فهات الذهب ! فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به .
وهكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها عامة .
وقال السدي : هي في أهل القبلة .
وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل - قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا - قال : وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم . فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا .
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر : ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثالثة وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين
فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن عبد الله بن الصامت - رضي الله عنه - أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية له ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا . قال : قلت : لو ادخرته للحاجة تنوبك وللضيف ينزل بك ! قال : إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله - عز وجل - .
ورواه عن يزيد ، عن همام ، به ، وزاد : إفراغا .
وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته ، عن محمد بن مهدي : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي فروة الرهاوي ، عن عطاء ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا . قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال : ما سئلت فلا تمنع ، وما رزقت فلا تخبأ ، قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو ذاك وإلا فالنار إسناده ضعيف .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عتيبة ، عن بريد بن أصرم قال : سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول : مات رجل من أهل الصفة ، وترك دينارين - أو : درهمين - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيتان ، صلوا على صاحبكم .
وقد روي هذا من طرق أخر .
وقال قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال : مات رجل من أهل الصفة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كية . ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيتان .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي ، حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي ، حدثني أرطاة ، حدثني أبو عامر الهوزني ، سمعت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض ، إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن خداش ، حدثنا سيف بن محمد الثوري ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ، ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون سيف هذا كذاب متروك .