وقوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ) قال مسلم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن زياد بن حصين ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، ( ولقد رآه نزلة أخرى ) قال : رآه بفؤاده مرتين .
وكذا رواه سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله . وكذا قال أبو صالح والسدي وغيرهما : إنه رآه بفؤاده مرتين [ أو مرة ] ، وقد خالفه ابن مسعود وغيره ، وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية ، وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد . ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب ، فإنه لا يصح في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم ، وقول البغوي في تفسيره : وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه ، وهو قول أنس والحسن وعكرمة . فيه نظر ، والله أعلم .
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان ، حدثنا يحيى بن كثير العنبري ، عن سلم بن جعفر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه . قلت : أليس الله يقول : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) [ الأنعام : 103 ] قال : ويحك ! ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين .
ثم قال : حسن غريب .
وقال أيضا : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن مجالد ، عن الشعبي قال : لقي ابن عباس كعبا بعرفة ، فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين . وقال مسروق : دخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد تكلمت بشيء قف له شعري . فقلت : رويدا ، ثم قرأت : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى )
فقالت : أين يذهب بك ؟ إنما هو جبريل ، من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمر به ، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ) [ لقمان : 34 ] ، فقد أعظم الفرية ، ولكنه رأى جبريل ، لم يره في صورته إلا مرتين ، مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد ، وله ستمائة جناح قد سد الأفق .
وقال النسائي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الحلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد عليهم السلام ؟ ! .
وفي صحيح مسلم ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل رأيت ربك ؟ فقال : " نور أنى أراه " . وفي رواية : " رأيت نورا " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب قال : قالوا : يا رسول الله ، رأيت ربك ؟ قال : " رأيته بفؤادي مرتين " ثم قرأ : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) .
ورواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن مهران ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قلنا : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ قال : " لم أره بعيني ، ورأيته بفؤادي مرتين " ثم تلا ( ثم دنا فتدلى ) .
ثم قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، أخبرني عباد بن منصور قال : سألت عكرمة : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه ؟ قلت : نعم . قال : قد رآه ، ثم قد رآه . قال : فسألت عنه الحسن فقال : رأى جلاله وعظمته ورداءه .
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مجاهد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، أخبرنا أبو خلدة ، عن أبي العالية قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ قال : " رأيت نهرا ، ورأيت وراء النهر حجابا ، ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير " .
وذلك غريب جدا ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت ربي عز وجل " .
فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الإمام أحمد أيضا :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة عن ابن عباس ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال : يا محمد ، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ " قال : " قلت : لا . فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال : نحري - فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ، ثم قال : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ " قال : " قلت : نعم ، يختصمون في الكفارات والدرجات " . قال : " وما الكفارات والدرجات ؟ " قال : " قلت : المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجمعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه . وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم ، إني أسألك الخيرات وترك المنكرات ، وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون " . قال : " والدرجات بذل الطعام ، وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام " .
وقد تقدم في آخر سورة " ص " ، عن معاذ نحوه . وقد رواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس ، وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال :
حدثني أحمد بن عيسى التميمي ، حدثني سليمان بن عمر بن سيار ، حدثني أبي ، عن سعيد بن زربي ، عن عمر بن سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : لا يا رب . فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت ما في السماوات والأرض ، فقلت : يا رب ، في الدرجات والكفارات ، ونقل الأقدام إلى الجمعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . فقلت : يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما ، وفعلت وفعلت ، فقال : ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أضع عنك وزرك ؟ ألم أفعل بك ؟ ألم أفعل ؟ قال : " فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها " قال : " فذاك قوله في كتابه : ( ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، فجعل نور بصري في فؤادي ، فنظرت إليه بفؤادي " . إسناده ضعيف .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هبار بن الأسود ، رضي الله عنه ; أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في تجارة إلى الشام قال لأهل مكة : اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى . فبلغ قوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " سلط الله عليه كلبا من كلابه " . قال هبار : فكنت معهم ، فنزلنا بأرض كثيرة الأسد ، قال : فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رءوس القوم واحدا واحدا ، حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم .
وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة : أن ذلك كان بأرض الزرقاء ، وقيل : بالسراة ، وأنه خاف ليلتئذ ، وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله ، فجاء الأسد فجعل يزأر ، ثم تخطاهم إليه فضغم رأسه ، لعنه الله .