تقدم في سورة " الفتح " ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كفار قريش فكان فيه : " على ألا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وفي رواية : " على أنه لا يأتيك منا أحد - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا " . وهذا قول عروة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد ، والزهري ، ومقاتل ، والسدي . فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ، وهذا من أحسن أمثلة ذلك ، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله ، عز وجل ، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن .
وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش ، من المسند الكبير ، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم ، عن محمد بن يحيى الذهلي ، عن يعقوب بن محمد ، عن عبد العزيز بن عمران ، عن مجمع بن يعقوب ، عن حسين بن أبي لبانة ، عن عبد الله بن أبي أحمد قال : هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الهجرة ، فخرج أخواها عمارة ، والوليد حتى قدما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلماه فيها أن يردها إليهما ، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة ، ومنعهن أن يرددن إلى المشركين ، وأنزل الله آية الامتحان .
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير ، عن قيس بن الربيع ، عن الأغر بن الصباح ، عن خليفة ، عن حصين ، عن أبي نصر الأسدي قال : سئل ابن عباس : كيف كان امتحان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النساء ؟ قال : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ؟ وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا ؟ وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله ؟ .
ثم رواه من وجه آخر ، عن الأغر بن الصباح به . وكذا رواه البزار من طريقه ، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له عمر بن الخطاب .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبد الله ورسوله .
وقال مجاهد : ( فامتحنوهن ) فاسألوهن : عما جاء بهن ؟ فإن كان بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ، ولم يؤمن فارجعوهن إلى أزواجهن .
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ؟ وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرار من زوجك ؟ فذلك قوله : ( فامتحنوهن )
وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله : ما أخرجكن النشوز ؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحرص عليه ؟ فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن .
وقوله : ( فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينا .
وقوله : ( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ; ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لها رقة شديدة ، وقال للمسلمين : " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا " . ففعلوا ، فأطلقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زيد بن حارثة ، رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صداقا ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن إسحاق ، حدثنا داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ، ولم يحدث شهادة ولا صداقا .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه . ومنهم من يقول : " بعد سنتين " ، وهو صحيح ; لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين . وقال الترمذي : " ليس بإسناده بأس ، ولا نعرف وجه هذا الحديث ، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين . وسمعت عبد بن حميد يقول : سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث ، وحديث ابن الحجاج - يعني ابن أرطاة - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد . فقال يزيد : حديث ابن عباس أجود إسنادا والعمل على حديث عمرو بن شعيب " .
قلت : وقد روى حديث الحجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وضعفه الإمام أحمد ، وغير واحد ، والله أعلم .
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه ; لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه .
وقال آخرون : بل إذا انقضت العدة هي بالخيار ، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ، وحملوا عليه حديث ابن عباس ، والله أعلم .
وقوله : ( وآتوهم ما أنفقوا ) يعني : أزواج المهاجرات من المشركين ، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والزهري ، وغير واحد .
وقوله : ( ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ) يعني : إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن ، أي : تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة ، والولي ، وغير ذلك .
وقوله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) تحريم من الله ، عز وجل ، على عباده المؤمنين نكاح المشركات ، والاستمرار معهن .
وفي الصحيح ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور ، ومروان بن الحكم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساء من المؤمنات ، فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) إلى قوله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين ، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية .
وقال ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم ، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية ، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها ، وقال : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال : وإنما حكم الله بينهم بذلك ، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري : طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها معاوية ، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ، وهي أم عبيد الله ، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم ، رجل من قومه ، وهما على شركهما ، وطلق طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص .
وقوله : ( واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) أي : وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار ، إن ذهبن ، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين .
وقوله : ( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ) أي : في الصلح واستثناء النساء منه ، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه : ( والله عليم حكيم ) أي عليم بما يصلح عباده ، حكيم في ذلك .