ثم قال تعالى : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع; فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا ، وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل . فأما إذا كان بكرا لم يتزوج ، فإن حده مائة جلدة كما في الآية ويزاد على ذلك أن يغرب عاما [ عن بلده ] عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله; فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام ، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب .
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عسيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ ابني [ منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها .
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :
حدثني ابن شهاب ، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن الله بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا وهذا قطعة منه ، فيها مقصودنا هاهنا .
وروى الإمام أحمد ، عن هشيم ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف; أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وإن أناسا يقولون : ما بال الرجم؟ في كتاب الله الجلد . وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده . ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت .
وأخرجه النسائي ، من حديث عبيد الله بن عبد الله ، به .
وقد روى أحمد أيضا ، عن هشيم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تخدعن عنه; فإنه حد من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده . ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا .
وروى أحمد أيضا ، عن يحيى القطان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم .
الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عمر ، وقال : صحيح .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا ابن عون ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : " والشيخ والشيخة فارجموهما البتة " . قال مروان : ألا كتبتها في المصحف؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك . قال : قلنا : فكيف؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكتبني آية الرجم : قال : " لا أستطيع الآن " . هذا أو نحو ذلك .
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غندر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن كثير بن الصلت ، عن زيد بن ثابت ، به .
وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي حكمها معمولا به ، ولله الحمد .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زنت مع الأجير . ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية . وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلدهم قبل الرجم . وإنما وردت الأحاديث الصحاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد; ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشراحة وكانت قد زنت وهي محصنة ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر ، جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم " .
وقوله : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) أي : في حكم الله . لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية [ ألا تكون حاصلة ] على ترك الحد ، [ وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد ] فلا يجوز ذلك .
قال مجاهد : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل . وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح . وقد جاء في الحديث : " تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب " . وفي الحديث الآخر : " لحد يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " .
وقيل : المراد : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فلا تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرح .
قال عامر الشعبي : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : رحمة في شدة الضرب . وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح . وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع ثيابه ، ثم تلا ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فقلت : هذا في الحكم؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع ، عن نافع ، [ عن ] ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها - قال : قلت : ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) قال : يا بني ، ورأيتني أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت .
وقوله : ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) أي : فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرحا; ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك . وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : " ولك في ذلك أجر " .
وقوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .
قال الحسن البصري في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) يعني : علانية .
ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) الطائفة : الرجل فما فوقه .
وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف . وكذا قال عكرمة; ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدق على واحد .
وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان . وبه قال إسحاق بن راهويه . وكذا قال سعيد بن جبير : ( طائفة من المؤمنين ) قال : يعني : رجلين فصاعدا .
وقال الزهري : ثلاثة نفر فصاعدا .
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وهب ، عن الإمام مالك في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا; لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدا . وبه قال الشافعي .
وقال ربيعة : خمسة . وقال الحسن البصري : عشرة . وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين; ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بقية قال : سمعت نصر بن علقمة في قوله : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة .