هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار ، كما ضرب للمنافقين في أول " البقرة " مثلين ناريا ومائيا ، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة " الرعد " مثلين مائيا وناريا ، وقد تكلمنا على كل منها في موضعه بما أغنى عن إعادته ، ولله الحمد والمنة .
فأما الأول من هذين المثلين : فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم ، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات ، وليسوا في نفس الأمر على شيء ، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام . والقيعة : جمع قاع ، كجار وجيرة . والقاع أيضا : واحد القيعان ، كما يقال : جار وجيران . وهي : الأرض المستوية المتسعة المنبسطة ، وفيه يكون السراب ، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار . وأما الآل فإنما يكون أول النهار ، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض ، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء ، حسبه ماء فقصده ليشرب منه ، فلما انتهى إليه ( لم يجده شيئا ) ، فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حصل شيئا ، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ، ونوقش على أفعاله ، لم يجد له شيئا بالكلية قد قبل ، إما لعدم الإخلاص ، وإما لعدم سلوك الشرع ، كما قال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) [ الفرقان : 23 ] .
وقال هاهنا : ( ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) . وهكذا روي عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة وغير واحد .
وفي الصحيحين : أنه يقال يوم القيامة لليهود : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن الله . فيقال : كذبتم ، ما اتخذ الله من ولد ، ماذا تبغون؟ فيقولون : أي ربنا ، عطشنا فاسقنا . فيقال : ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ، فينطلقون فيتهافتون فيها .