يخبر تعالى عن موسى ، عليه السلام ، أنه لما جاء لميقات الله تعالى ، وحصل له التكليم من الله [ تعالى ] سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال : ( ( 143 ) رب أرني أنظر إليك قال لن تراني )
وقد أشكل حرف " لن " هاهنا على كثير من العلماء ; لأنها موضوعة لنفي التأبيد ، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة . وهذا أضعف الأقوال ; لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة ، كما سنوردها عند قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة ) [ القيامة : 22 ، 23 ] .
وقوله تعالى إخبارا عن الكفار : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [ المطففين : 15 ]
وقيل : إنها لنفي التأبيد في الدنيا ، جمعا بين هذه الآية ، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة .
وقيل : إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) وقد تقدم ذلك في الأنعام [ الآية : 103 ] .
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى ، عليه السلام : " يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده " ; ولهذا قال تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا )
قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي ، حدثنا قرة بن عيسى ، حدثنا الأعمش ، عن رجل ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما تجلى ربه للجبل ، أشار بإصبعه فجعله دكا " وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة
هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم ، ثم قال
حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد ، عن ليث ، عن أنس ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) قال : " هكذا بإصبعه - ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل "
هكذا وقع في هذه الرواية " حماد بن سلمة ، عن ليث ، عن أنس " . والمشهور : " حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس " ، كما قال ابن جرير :
حدثني المثنى ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) قال : وضع الإبهام قريبا من طرف خنصره ، قال : فساخ الجبل - قال حميد لثابت : تقول هذا ؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقوله أنس وأنا أكتمه ؟
وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو المثنى ، معاذ بن معاذ العنبري ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) قال : قال هكذا - يعني أنه أخرج طرف الخنصر - قال أحمد : أرانا معاذ ، فقال له حميد الطويل : ما تريد إلى هذا يا أبا محمد ؟ قال : فضرب صدره ضربة شديدة وقال : من أنت يا حميد ؟ ! وما أنت يا حميد ؟ ! يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقول أنت : ما تريد إليه ؟ !
وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق ، عن معاذ بن معاذ به . وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن سلمة به ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث حماد .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق ، عن حماد بن سلمة ، به . وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه
ورواه أبو محمد الحسن بن محمد الخلال ، عن محمد بن علي بن سويد ، عن أبي القاسم البغوي ، عن هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، فذكره وقال : هذا إسناد صحيح لا علة فيه .
وقد رواه داود بن المحبر ، عن شعبة ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا وهذا ليس بشيء ، لأن داود بن المحبر كذاب ورواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بنحوه
وأسنده ابن مردويه من طريقين ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا بنحوه ، وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا ، ولا يصح أيضا .
وقال السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل ) قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر ( جعله دكا ) قال : ترابا ( وخر موسى صعقا ) قال : مغشيا عليه . رواه ابن جرير .
وقال قتادة : ( وخر موسى صعقا ) قال : ميتا .
وقال سفيان الثوري : ساخ الجبل في الأرض ، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه
وقال سنيد ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن أبي بكر الهذلي : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ) انقعر فدخل تحت الأرض ، فلا يظهر إلى يوم القيامة .
وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض ، فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة ، رواه ابن مردويه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شبة ، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، عن معاوية بن عبد الله ، عن الجلد بن أيوب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل ، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة ، بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى . ووقع بمكة : حراء ، وثبير ، وثور " .
وهذا حديث غريب ، بل منكر
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا الهيثم بن خارجة ، حدثنا عثمان بن حصين بن علاق ، عن عروة بن رويم قال : كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صما ملسا ، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف .
وقال الربيع بن أنس : ( فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ) وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور ، صار مثل دك من الدكاك . وقال بعضهم : ( جعله دكا ) أي : فتته .
وقال مجاهد في قوله : ( ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، ( فلما تجلى ربه للجبل ) فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل ، فخر صعقا .
وقال عكرمة : ( جعله دكا ) قال : نظر الله إلى الجبل ، فصار صحراء ترابا .
وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء ، واختارها ابن جرير ، وقد ورد فيها حديث مرفوع ، رواه ابن مردويه .
والمعروف أن " الصعق " هو الغشي هاهنا ، كما فسره ابن عباس وغيره ، لا كما فسره قتادة بالموت ، وإن كان ذلك صحيحا في اللغة ، كقوله تعالى : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) [ الزمر : 68 ] فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي ، وهي قوله : ( فلما أفاق ) والإفاقة إنما تكون من غشي .
( قال سبحانك ) تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات .
وقوله : ( تبت إليك ) قال مجاهد : أن أسألك الرؤية .
( وأنا أول المؤمنين ) قال ابن عباس ومجاهد : من بني إسرائيل . واختاره ابن جرير . وفي رواية أخرى عن ابن عباس : ( وأنا أول المؤمنين ) أنه لا يراك أحد . وكذا قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون ، ولكن يقول : أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة .
وهذا قول حسن له اتجاه . وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرا طويلا فيه غرائب وعجائب ، عن محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله تعالى أعلم .
وقوله : ( وخر موسى صعقا ) فيه أبو سعيد وأبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما حديث أبي سعيد ، فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا ، فقال :
حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه ، فقال : يا محمد ، إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي . قال : " ادعوه " فدعوه ، قال : " لم لطمت وجهه ؟ " قال : يا رسول الله ، إني مررت باليهودي فسمعته يقول : والذي اصطفى موسى على البشر .
قال : قلت : وعلى محمد ؟ فأخذتني غضبة فلطمته ، قال : " لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " .
وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ، ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه ، وأبو داود في كتاب " السنة " من سننه من طرق ، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري ، به
وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده :
حدثنا أبو كامل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : استب رجلان : رجل من المسلمين ، ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين . وقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه ، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله فأخبره ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعترف بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني على موسى ; فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى ممسكا بجانب العرش ، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي ، أم كان ممن استثناه الله ، عز وجل " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الزهري ، به
وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا ، رحمه الله : أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار ، وهذا هو أصح وأصرح ، والله أعلم .
والكلام في قوله ، عليه السلام : " لا تخيروني على موسى " ، كالكلام على قوله : " لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى " ، قيل : من باب التواضع . وقيل : قبل أن يعلم بذلك . وقيل : نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب . وقيل : على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي ، والله أعلم .
وقوله : " فإن الناس يصعقون يوم القيامة " ، الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة ، يحصل أمر يصعقون منه ، والله أعلم به . وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ، وتجلى للخلائق الملك الديان ، كما صعق موسى من تجلي الرب ، عز وجل ، ولهذا قال ، عليه السلام : " فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " ؟
وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه " الشفاء " بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق : حدثنا قتادة ، حدثنا الحسن ، عن قتادة ، عن يحيى بن وثاب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما تجلى الله لموسى ، عليه السلام ، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء ، مسيرة عشرة فراسخ " ثم قال : " ولا يبعد على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب ، بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى .
انتهى ما قاله ، وكأنه صحح هذا الحديث ، وفي صحته نظر ، ولا يخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ، ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله ، حتى ينتهي إلى منتهاه ، والله أعلم .