وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض ، وإذا طلق الزوج قبل الدخول ، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة والله أعلم .
وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء ، لا خلاف بينهم في ذلك ، فإنه متى كان قد سمى لها صداقا ثم فارقها قبل دخوله بها ، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق ، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج ، وإن لم يدخل بها ، وهو مذهب الشافعي في القديم ، وبه حكم الخلفاء الراشدون ، لكن قال الشافعي : أخبرنا مسلم بن خالد ، أخبرنا ابن جريج ، عن ليث بن أبي سليم ، عن طاوس ، عن ابن عباس أنه قال : في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها ليس لها إلا نصف الصداق ; لأن الله يقول : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) قال الشافعي : هذا أقوى وهو ظاهر الكتاب .
قال البيهقي : وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج به ، فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس فهو يقوله .
وقوله : ( إلا أن يعفون ) أي : النساء عما وجب لها على زوجها من النصف ، فلا يجب لها عليه شيء .
قال السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : ( إلا أن يعفون ) قال : إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها . قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم ، رحمه الله : وروي عن شريح ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، ومجاهد ، والشعبي ، والحسن ، ونافع ، وقتادة ، وجابر بن زيد ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، والزهري ، ومقاتل بن حيان ، وابن سيرين ، والربيع بن أنس ، والسدي ، نحو ذلك . قال : وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال : ( إلا أن يعفون ) يعني : الرجال ، وهو قول شاذ لم يتابع عليه . انتهى كلامه .
وقوله : ( أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ) قال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لهيعة ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ قال ] : " ولي عقدة النكاح الزوج " .
وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة ، به . وقد أسنده ابن جرير ، عن ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره ولم يقل : عن أبيه ، عن جده ، فالله أعلم .
ثم قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : وحدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا جرير ، يعني ابن حازم ، عن عيسى يعني ابن عاصم قال : سمعت شريحا يقول : سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح . فقلت له : هو ولي المرأة . فقال علي : لا بل هو الزوج .
ثم قال : وفي إحدى الروايات عن ابن عباس ، وجبير بن مطعم ، وسعيد بن المسيب ، وشريح في أحد قوليه وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والشعبي ، وعكرمة ، ونافع ، ومحمد بن سيرين ، والضحاك ، ومحمد بن كعب القرظي ، وجابر بن زيد ، وأبي مجلز ، والربيع بن أنس ، وإياس بن معاوية ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان : أنه الزوج .
قلت : وهذا هو الجديد من قولي الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة . وأصحابه ، والثوري ، وابن شبرمة ، والأوزاعي ، واختاره ابن جرير . ومأخذ هذا القول : أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج ، فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها ، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئا من مال المولية للغير ، فكذلك في الصداق .
قال : والوجه الثاني : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن مسلم ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح قال : ذلك أبوها أو أخوها ، أو من لا تنكح إلا بإذنه ، وروي عن علقمة ، والحسن ، وعطاء ، وطاوس ، والزهري ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، وإبراهيم النخعي ، وعكرمة في أحد قوليه ، ومحمد بن سيرين في أحد قوليه : أنه الولي . وهذا مذهب مالك ، وقول الشافعي في القديم ; ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه ، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها .
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن الربيع الرازي ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : أذن الله في العفو وأمر به ، فأي امرأة عفت جاز عفوها ، فإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه .
وهذا يقتضي صحة عفو الولي ، وإن كانت رشيدة ، وهو مروي عن شريح . لكن أنكر عليه الشعبي ، فرجع عن ذلك ، وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه .
وقوله : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) قال ابن جرير : قال بعضهم : خوطب به الرجال ، والنساء . حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) قال : أقربهما للتقوى الذي يعفو .
وكذا روي عن الشعبي وغيره ، وقال مجاهد ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، والثوري : الفضل هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها ، أو إتمام الرجل الصداق لها . ولهذا قال : ( ولا تنسوا الفضل [ بينكم ] ) أي : الإحسان ، قاله سعيد . وقال الضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وأبو وائل : المعروف ، يعني : لا تهملوه بل استعملوه بينكم .
وقد قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي ، عن عبد الله بن عبيد ، عن علي بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليأتين على الناس زمان عضوض ، يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل ، وقد قال الله تعالى : ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) شرار يبايعون كل مضطر ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وعن بيع الغرر ، فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ، ولا تزده هلاكا إلى هلاكه ، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه " .
وقال سفيان ، عن أبي هارون قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي ، فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء ويقول : صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هما ، حين رأيتهم أحسن ثيابا ، وأطيب ريحا ، وأحسن مركبا [ مني ] . وجالست الفقراء فاسترحت بهم ، وقال : ( ولا تنسوا الفضل بينكم ) إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فليدع له : رواه ابن أبي حاتم .
( إن الله بما تعملون بصير ) أي : لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم ، وسيجزي كل عامل بعمله .