هذا أيضا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، - عليه السلام - ، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد . هكذا قاله قتادة وغيره ، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى : ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم )
وقال السدي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا .
قال ابن جرير : هذا هو الصواب ، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا . واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين :
أحدهما : أن الكلام لفظ المضي .
والثاني : قوله : ( إن تعذبهم ) و ( إن تغفر لهم )
وهذان الدليلان فيهما نظر ; لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ، ليدل على الوقوع والثبوت . ومعنى قوله : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) الآية : التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله ، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه ، كما في نظائر ذلك من الآيات .
والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر ، والله أعلم : أن ذلك كائن يوم القيامة ، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة . وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله ، مولى عمر بن عبد العزيز ، وكان ثقة ، قال : سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم ، ثم يدعى بعيسى ؛ فيذكره الله نعمته عليه ، فيقر بها ، فيقول : ( يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ) الآية [ المائدة : 110 ] ثم يقول : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيسألون ، فيقولون : نعم ، هو أمرنا بذلك ، قال : فيطول شعر عيسى ، - عليه السلام - ، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده . فيجاثيهم بين يدي الله ، عز وجل ، مقدار ألف عام ، حتى ترفع عليهم الحجة ، ويرفع لهم الصليب ، وينطلق بهم إلى النار " ، وهذا حديث غريب عزيز .
وقوله : ( سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : يلقى عيسى حجته ، ولقاه الله في قوله : ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقاه الله : ( سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) إلى آخر الآية .
وقد رواه الثوري ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن طاوس ، بنحوه .
وقوله : ( إن كنت قلته فقد علمته ) أي : إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب ، فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ; ولهذا قال : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب)