قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه ، الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم . وهذا القول فيه نظر ; لأن هذه الآية مدنية ، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة .
وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما : نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ، ويروا صفاته ، فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا ، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه .
قال السدي : فهاجر النجاشي فمات في الطريق .
وهذا من إفراد السدي فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات ، وأخبر به أصحابه ، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة .
ثم اختلف في عدة هذا الوفد ، فقيل : اثنا عشر ، سبعة قساوسة وخمسة رهابين . وقيل بالعكس . وقيل : خمسون . وقيل : بضع وستون . وقيل : سبعون رجلا . فالله أعلم .
وقال عطاء بن أبي رباح : هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين ، وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا . واختار ابن جرير أن هذه [ الآية ] نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة ، سواء أكانوا من الحبشة أو غيرها .
فقوله [ تعالى ] ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) ما ذاك إلا لأن كفر اليهود عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم . ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسحروه ، وألبوا عليه أشباههم من المشركين - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه عند تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن محمد بن السري : حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرقي ، حدثنا سعيد العلاف بن العلاف ، حدثنا أبو النضر ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن يحيى بن عبد الله عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي قط بمسلم إلا هم بقتله " .
ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق اليشكري ، حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي ، حدثنا فرج بن عبيد ، حدثنا عباد بن العوام ، عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثت نفسه بقتله " . وهذا حديث غريب جدا .
وقوله : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) أي : الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله ، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم ، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال تعالى : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ) [ الحديد : 27 ] وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر . وليس القتال مشروعا في ملتهم ; ولهذا قال تعالى : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) أي : يوجد فيهم القسيسون - وهم خطباؤهم وعلماؤهم ، واحدهم : قسيس وقس أيضا ، وقد يجمع على قسوس - والرهبان : جمع راهب ، وهو : العابد . مشتق من الرهبة ، وهي الخوف ؛ كراكب وركبان ، وفارس وفرسان .
وقال ابن جرير : وقد يكون الرهبان واحدا وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وجردان وجرادين وقد يجمع على رهابنة . ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا بشر بن آدم ، حدثنا نصير بن أبي الأشعث حدثني الصلت الدهان عن حامية بن رئاب قال : سألت سلمان عن قول الله [ عز وجل ] : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ) فقال : دع " القسيسين " في البيع والخرب ، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا " .
وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن نصير بن زياد الطائي ، عن صلت الدهان ، عن حامية بن رئاب ، عن سلمان به .
وقال ابن أبي حاتم : ذكره أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا نصير بن زياد الطائي ، حدثنا صلت الدهان عن حامية بن رئاب قال : سمعت سلمان وسئل عن قوله : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ) قال : هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب ، فدعوهم فيها ، قال سلمان : وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم ( ذلك بأن منهم قسيسين [ ورهبانا ] ) فأقرأني : " ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا " .
فقوله : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع