يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم.( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) يقول: وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه ، أن لهم الحسنى ، فأن في موضع نصب، لأنها ترجمة عن الكذب. وتأويل الكلام: ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم، ويزعمون أن لهم الحسنى ، الذي يكرهونه لأنفسهم. البنات يجعلونهن لله تعالى، وزعموا أن الملائكة بنات الله. وأما الحُسنى التي جعلوها لأنفسهم: فالذكور من الأولاد ، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم ، ويستبقون الذكور منهم، ويقولون: لنا الذكور ولله البنات ، وهو نحو قوله وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ) قال: قول قريش: لنا البنون ولله البنات.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: قول كفَّار قريش.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) : أي يتكلمون بأن لهم الحُسنى أي الغلمان.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ) قال: الغلمان.
وقوله ( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول تعالى ذكره: حقا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات ، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم ، ولأنفسهم الحسنى عند الله يوم القيامة النار.
وقد بيَّنا تأويل قول الله ( لا جَرَمَ ) في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ورُوي عن ابن عباس في ذلك، ما حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لا جَرَمَ ) يقول: بلى.
وقوله ( لا جَرَمَ ) كان بعض أهل العربية يقول: لم تُنْصَبْ جَرَمَ بلا كما نصبت الميم من قول: لا غلام لك؛ قال: ولكنها نُصِبَت لأنها فعل ماض، مثل قول القائل: قَعَدَ فلان وجلس ، والكلام: لا ردّ لكلامهم أي ليس الأمر هكذا، جَرَمَ: كَسَبَ، مثل قوله لا أقسم، ونحو ذلك. وكان بعضهم يقول: نصب جَرَمَ بلا وإنما بمعنى: لا بدّ، ولا محالة ؛ ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنـزلة حقا.
وقوله ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول تعالى ذكره: وأنهم مُخَلَّفون متروكون في النار، منسيون فيها.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية ( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: منسيون مُضَيَّعون.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: أخبرنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا بهز بن أسد، عن شعبة، قال: أخبرني أبو بشر، عن سعيد بن جبير، مثله.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله ( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: متروكون في النار، منسيون فيها.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: حصين، أخبرنا، عن سعيد بن جبير، بمثله.
حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن سعيد بن جبير بمثله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: منسيون.
حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: متروكون في النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم، عن مجاهد ( مُفْرَطُونَ ) قال: مَنْسيون.
حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، عن الحسين، عن قتادة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول: مُضَاعُون.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا بدل، قال: ثنا عباد بن راشد، قال: سمعت داود بن أبي هند، في قول الله ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: منسيون في النار.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم مُعْجَلُونَ إلى النار مقدّمون إليها ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانا في طلب الماء، إذا قدّموه لإصلاح الدلاء والأرشية ، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه فهو مُفْرَط. فأما المتقدّم نفسه فهو فارط، يقال: قد فَرَط فلان أصحابَه يَفْرُطهم فُرْطا وفُروطا: إذا تقدمهم وجمع فارط: فُرَّاط ومنه قول القُطامِيّ:
واسْـتَعْجَلُونا وكـانُوا مِـنْ صَحَابَتِنـا
كمَـــا تَعَجَّــل فُــرَّاطٌ لِــوُرَّادِ (2)
ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أنا فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ": أي متقدمكم إليه وسابقكم " حتى تَرِدُوهُ".
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول: مُعْجَلُون إلى النار.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: قد أفرطوا في النار أي مُعْجَلُون.
وقال آخرون. معنى ذلك: مُبْعَدون في النار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أشعث السمَّان، عن الربيع، عن أبي بشر، عن سعيد ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: مُخْسَئون مُبْعَدون.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم، إنما يقال فيمن قدَم مقدَما لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدمه عليه، وليس بمقدم من قدم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها لوارد يرد عليها فيها فيوافقه مصلحا، وإنما تَقَدّم مَن قُدِّم إليها لعذاب يُعجَّل له . فإذا كان معنى ذلك الإفراط الذي هو تأويل التعجيل ففسد أن يكون له وجه في الصحة، صحّ المعنى الآخر ، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك. وذلك أنه يُحكى عن العرب: ما أَفْرطت ورائي أحدًا: أي ما خَلَّفته ؛ وما فرطته: أي لم أخلفه.
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المِصرَينِ الكوفة والبصرة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) بتخفيف الراء وفتحها، على معنى ما لم يُسَمّ فاعله من أُفرِط فهو مُفْرَط . وقد بيَّنت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل. وقرأه أبو جعفر القارئ. " وأنَّهُم مُفَرِّطُونَ" بكسر الراء وتشديدها، بتأويل: أنهم مفرِّطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا، من طاعته وحقوقه، مضيعو ذلك، من قول الله تعالى يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وقرأ نافع بن أبي نعيم: " وأنَّهُم مُفْرِطُونَ" بكسر الراء وتخفيفها.
حدثني بذلك يونس، عن وَرْش عنه ، بتأويل: أنهم مُفْرِطُونَ في الذنوب والمعاصي، مُسْرِفون على أنفسهم مكثرون منها، من قولهم: أَفْرط فلان في القول: إذا تجاوز حَدَّه، وأسرف فيه.
والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم.
------------------------
الهوامش:
(2) البيت في ديوان القطامي (طبعة ليدن سنة 1902) وفيه "فاستعجلونا" بالفاء. يقول: استعجلونا: أي أعجلونا، يريد تقدمونا، والفراط: الذين يتقدمون الواردة، فيصلحون الأرشية، حتى يأتي القوم بعدهم. وفي اللسان: فرط: وفرط القوم يفرطهم فرطا (من باب قتل) وفراطة: تقدمهم إلى الورد، لإصلاح الأرشية والدلاء، ومدر الحياض والسقي فيها، فأنا فارط، وهم الفراط؛ قال القطامي: فاستعجلونا ... الخ البيت. وفي الصحاح: كما تعجل في موضع: كما تقدم.