القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف الله صِفَتهم، عذابًا مهينًا =" والذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس."
* * *
و " الذين " في موضع خفضٍ، عطفًا على " الكافرين ".
* * *
وقوله: " رئاء الناس "، يعني: ينفقه مُراءاة الناس، في غير طاعة الله أو غير سبيله، ولكن في سبيل الشيطان (1) =" ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "، يقول: ولا يصدقون بوحدانية الله، ولا بالمَعَاد إليه يوم القيامة (2) - الذي فيه جزاء الأعمال - أنه كائن. (3)
* * *
وقد قال مجاهد (4) إن هذا من صفة اليهود! وهو بصفة أهل النفاق الذين كانوا أهلَ شرك، (5) فأظهروا الإسلام تقيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلِ الإيمان به، وهم على كفرهم مقيمون = (6) أشبه منه بصفة اليهود. لأن اليهود كانت توحِّد الله وتصدّق بالبعث والمعاد. وإنما كان كفرُها، تكذيبَها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبعدُ، ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وصفة الفريق الآخر الذين وصفهم في الآية قبلها، وأخبر أنّ لهم عذابًا مهينًا = بـ " الواو " الفاصلة بينهم = (7) ما ينبئ عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني، وإن كان جميعهم أهلَ كفر بالله. (8) ولو كانت الصفتان كلتاهما صفة نوع من الناس، لقيل إن شاء الله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ،" الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس "، ولكن فصل بينهم بـ " الواو " لما وصفنا.
* * *
فإن ظن ظان أن دخول " الواو " غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب = فإنّ ذلك، (9) وإن كان كذلك، فإن الأفصح في كلام العرب إذا أريد ذلك، ترك إدخال " الواو ". وإذا أريد بالثاني وصفٌ آخر غير الأوّل، إدخال " الواو ". (10) وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأشهر من كلام مَنْ نـزل بلسانه كتابُه، أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم.
* * *
القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يكن الشيطان له خليلا وصاحبًا، يعمل بطاعته، ويتبع أمره، ويترك أمرَ الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات =" فساء قرينًا "، يقول: فساء الشيطان قرينًا.
* * *
وإنما نصب " القرين "، لأن في" ساء " ذكرًا من الشيطان، كما قال جل ثناؤه: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا [سورة الكهف: 50]، وكذلك تفعل العرب في" ساء " ونظائرها (11) = ومنه قول عدي بن زيد:
عَـنِ الْمَـرْءِ لا تَسْـأَلْ, وأبْصِرْ قَرِينَهُ
فَــإنَّ الْقَــرِينَ بِالمُقَــارِنِ مُقْتَـدِ (12)
يريد: بـ " القرين "، الصّاحبَ والصديق.
---------------------------
الهوامش :
(1) انظر تفسير"رئاء" فيما سلف 5: 521 ، 522.
(2) في المطبوعة: "ولا بالميعاد".
(3) قوله: "أنه كائن" ، سياقه"ولا يصدقون بالمعاد... أنه كائن".
(4) يعني في الأثر رقم: 9495.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو صفة أهل النفاق" ، وهو لا يستقيم ، كما سترى في التعليق التالي.
(6) السياق: "وهو بصفة أهل النفاق... أشبه منه بصفة اليهود" ، فصح التصحيح السالف. أما ناشر المطبوعة ، فإنه لما رأى الكلام غير مستقيم ، كتب: "أشبه منهم بصفة اليهود" ، فزاد الكلام فسادًا.
(7) السياق: ففي فصل الله... بالواو الفاصلة بينهم ، ما ينبئ".
(8) في المطبوعة: "وإن كان جمعهم" ، وهو خطأ محض ، صوابه من المخطوطة ، وهي غير منقوطة.
(9) في المطبوعة: "في كلام العرب. قيل ذلك وإن كان كذلك" ، والذي دعا ناشر المخطوطة إلى ذلك أن الناسخ كتب"العربفان" وصل"باء""العرب" ، بفاء"فإن" ، فاجتهد المصحح.
(10) في المطبوعة: "أدخل الواو" ، والصواب من المخطوطة.
(11) انظر ما سلف في"ساء" 8: 138 ، تعليق: 8 ، ومعاني القرآن للفراء 1: 267-269 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 127.
(12) ديوانه ، في شعراء الجاهلية: 466 ، ومجموعة المعاني: 14 ، وغيرهما كثير. وقد أثبت البيت كما رواه أبو جعفر ، وكما جاء في المخطوطة ، أما ناشر المطبوعة فقد غيره ، وأثبت ما درج عليه من الرواية:
عَـنِ الْمَـرْءِ لا تَسأَل وسَلْ عَنْ قَرِينِه
فَكُــلُّ قَــرِينٍ بِالْمُقَــارن يَقْتَـدِي
وهو سوء تصرف لا شك فيه.