والاستباق : افتعال من السبْق . وتقدم آنفاً ، وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق ، أي أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب .
وانتصب { الباب } على نزع الخافض . وأصله : واستبقا إلى الباب ، مثل { واختار موسى قومَه سبعين رجلاً } [ سورة الأعراف : 155 ] ، أي من قومه ، أو على تضمين استبقا } معنى ابتدرا .
والتعريف في ( الباب ) تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة . وذلك أن يوسف عليه السّلام فرّ من مراودتها إلى الباب يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه .
وجملة { وقدّت قميصه } في موضع الحال . و { قدت } أي قطعت ، أي قطعت منه قداً ، وذلك قبل الاستباق لا محالة . لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف عليه السّلام أنها راودته ، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف عليه السّلام سبقها مسرعاً إلى الباب ، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة . وكان قطع القميص من دبر لأنه كان مولياً عنها معْرضاً فأمسكته منه لرده عن إعراضه .
وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة { استبقا الباب وقَدت قميصه }.
وصادف أن ألفيا سيدها ، أي زوجها ، وهو العزيز ، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي . وإطلاق السيد على الزوج قيل : إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذٍ ، كانوا يدعون الزوج سيداً . والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملاً في عادة العرب ، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ سورة يوسف : 76 ]. ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالباً . وقد علم من الكلام أن يوسف عليه السّلام فتح الأبواب التي غَلّقتها زليخا باباً باباً حتى بلغ الخارجي ، كل ذلك في حال استبَاقهما ، وهو إيجاز .
والإلفاء : وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه ، فالأكثر أن يكون مفاجئاً ، أو حاصلاً عن جهل بأول حصول ، كقوله تعالى : { قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } [ سورة البقرة : 170 ].
وجملة { قالت ما جزاء } الخ مستأنفة بيانياً ، لأن السامع يسأل : ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة .
وابتدرته بالكلام إمعاناً في البهتان بحيث لم تتلعثم ، تخيل له أنها على الحق ، وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون ، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها . ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف عليه السّلام مانعة له من عقابه ، فأفرغت كلامها في قالب كلي . وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها ، وأن تخيف يوسف عليه السّلام من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى .
ورددت يوسف عليه السّلام بين صنفين من العقاب ، وهما : السجن ، أي الحبس . وكان الحبس عقاباً قديماً في ذلك العصر ، واستمر إلى زمن موسى عليه السّلام ، فقد قال فرعون لموسى عليه السّلام : { لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين } [ سورة الشعراء : 29 ].
وأما العذاب فهو أنواع ، وهو عقاب أقدمُ في اصطلاح البشر . ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء . وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مراراً .