كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52(
كلمة { كذلك } فصل خطاب تدل على انتهاء حديث والشروع في غيره ، أو الرجوع إلى حديث قبله أتى عليه الحديث الأخير . والتقدير : الأمر كذلك . والإِشارة إلى ما مضى من الحديث ، ثم يورد بعده حديث آخر والسامع يردّ كُلاً إلى ما يناسبه ، فيكون ما بعد اسم الإِشارة متصلاً بأخبار الأمم التي تقدم ذكرها من قوم لوط ومن عطف عليهم .
أُعقب تهديد المشركين بأن يحل بهم ما حلّ بالأمم المكذبين لرسل الله من قبلهم بتنظيرهم بهم في مقالهم ، وقد تقدم ورود { كذلك } فصلاً للخطاب عند قوله تعالى : { كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً } في سورة الكهف ( 91 ( ، فقوله : { كذلك } فصل وجملة { ما أتى الذين من قبلهم من رسول } الآية مستأنفة استئنافاً ابتدائياً .
ولك أن تجعل قوله : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم } إلخ مبدأ استئناف عوداً إلى الإِنحاء على المشركين في قولهم المختلف بأنواع التكذيب في التوحيد والبعث وما يتفرع على ذلك .
واسم الإِشارة راجع إلى قوله : { إنكم لفي قول مختلف } [ الذاريات : 8 ] الآية كما علمت هنالك ، أي مثل قولهم المختلف قال الذين من قبلهم لما جاءتهم الرسل ، فيكون قوله { كذلك } في محل حال وصاحب الحال { الذين من قبلهم } .
وعلى كلا الوجهين فالمعنى : إن حال هؤلاء كحال الذين سبقوهم ممن كانوا مشركين أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر ، أو مجنون فكذلك سيجيب هؤلاء عن قولك : «فروا إلى الله ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر» بمثل جواب من قبلهم فلا مطمع في ارعوائهم عن عنادهم .
والمراد ب { الذين من قبلهم } الأمم المذكورة في الآيات السابقة وغيرهم ، وضمير { قبلهم } عائد إلى مشركي العرب الحاضرين .
وزيادة { مِن } في قوله : { من رسول } للتنصيص على إرادة العموم ، أي أن كل رسول قال فيه فريق من قومه : هو ساحر ، أو مجنون ، أي قال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : مجنون ، مثل قوم نوح دون السحر إذ لم يكن السحر معروفاً في زمانهم قالوا : { إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين } [ المؤمنون : 25 ] . وقد يجمعون القولين مثل قول فرعون في موسى .
وهذا العموم يفيد أنه لم يخْل قوم من الأقوام المذكورين إلا قالوا لرسولهم أَحَدَ القولين ، وما حكي ذلك عن بعضهم في آيات أخرى بلفظه أو بمرادفه كقول قوم هود { إن نقول إلا اعْتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] .
وأول الرسل هو نوح كما هو صريح الحديث الصحيح في الشفاعة . فلا يرد أن آدم لم يكذبه أهله ، وأن أنبياء بني إسرائيل مثل يوشع وأشعيا ، لم يكذبهم قومهم ، لأن الله قال : { من رسول } ، والرسول أخص من النبي .
والاستثناء في { إلا قالوا ساحر } استثناء من أحوال محذوفة .
والمعنى : ما أتى الذين من قبلهم من رسول في حال من أحوال أقوالهم إلا في حال قولهم : ساحر أو مجنون .
والقصر المستفاد من الاستثناء قصر ادعائي لأن للأمم أقوالاً غير ذلك وأحوالاً أخرى ، وإنما قُصروا على هذا اهتماماً بذكر هذه الحالة العجيبة من البهتان ، إذ يرمون أعقل الناس بالجنون وأقومهم بالسحر .
وإسناد القول إلى ضمير الذين من قبل مشركي العرب الحَاضرين إسناد باعتبار أنه قول أكثرهم فإن الأمور التي تنسب إلى الأقوام والقبائل تجري على اعتبار الغالب .