تذييل للكلام السابق المسوققِ للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولَة والتحذير من المثبّطات عنه ابتداء من قوله : { يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ } [ البقرة : 267 ] .
والمقصود من هذا التذييل التذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها ، وَأدْمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديراً بأن يكون تذييلاً .
والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك ، ويكون مطلَقاً ومعلَّقاً على شيء . وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية ، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قرباناً للكعبة ، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين ، وأكرِم بها مزيةً ، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت . وهي أول من كسا الكعبة الديباج . وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال : " يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال أوْففِ بنذرك " .
وفي الأمم السالفة كان النذر ، وقد حكى الله عن امرأة عمران { إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا } [ آل عمران : 35 ] . والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه ، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقاً أم معلّقاً ، لأنّ الآية أطلقت ، ولأنّ قوله : { فإن الله يعلمه } مراد به الوعد بالثواب . وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنّ النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخّر ، ولا يردّ شيئاً ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له ، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل " . ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر . وقد مدح الله عباده فقال : { يوفون بالنذر } [ الإنسان : 7 ] . وفي «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم " من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه " .
و ( مِن ) في قوله : { من نفقة } و { من نذر } بيان لما أنفقتم ونذرتم ، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائداً على معنى المبيَّن ، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبيّن ، تعيّن أن يكون المقصود منه بيان المنفَق والمنذور بما في تنكير مجروري ( مِنْ ) من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكّد بذلك العموممِ ما أفادته ما الشرطيةُ من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت ، قال التفتازاني : «مِثْل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص» .
وقوله : { فإن الله يعلمه } كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون ، فأريد لازم معناه ، وإنّما كان لازماً له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء .
{ وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } .
هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله : { فإن الله يعلمه } ، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون ، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع ، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة .
والأنصار جمع نصير ، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر ، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق ، ويقسي عليهم قلوب عباده ، ويلقي عليهم الكراهية من الناس .