وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
عطف على جملة { وقل آمنت بما أنزل الله } [ الشورى : 15 ] الخ ، وهو يقتضي انتقال الكلام ، فلما استوفى حظ أهل الكتاب في شأن المحاجّة معهم ، رجع إلى المشركين في هذا الشأن بقوله : { والذين يحاجون في الله } .
وتغيير الأسلوب بالإتيان بالاسم الظاهر الموصول وكوننِ صلته مادة الاحتجاج مؤذن بتغيير الغرض في المتحدث عنهم مع مناسبة ما ألحق به من قوله : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } [ الشورى : 18 ] وقوله : « أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدّين ما لم يأذن به الله » [ الشورى : 21 ] ، فالمقصود ب { الذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له } : المشركون لأنهم يحاجّون في شأن الله وهو الوحدانية دون اليهود من أهل الكتاب فإنهم لا يحاجّون في تفرد الله بالإلهاية . وعن مجاهد أنه قال : { الذين يحاجون في الله } رجال طمعوا أن تعود الجاهلية بعد ما دَخل الناس في الإسلام . ووقع في كلام ابن عباس عند الطبري : أنّهم اليهود والنصارى .
فمعنى محاجتهم في الله محاجتهم في دين الله ، أي إدخالهم على النّاس الشك في صحّة دين الإسلام أو في كونه أفضل من اليهودية والنصرانية . ومحاجتهم هي ما يُلبسوه به على المسلمين لإدخال الشك عليهم في اتّباع الإسلام كقول المشركين { ما لهذا الرّسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملَك فيكون معه نذيراً } [ الفرقان : 7 ] وقولهم في الأصنام { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقولِهم في إنكار البعث { أإِذَا مِتْنا وكنا تراباً ذلك رَجعٌ بعيدٌ } [ ق : 3 ] وقولهم : { إنْ نتبععِ الهُدى معَك نُتَخَطَّف من أرضنا } [ القصص : 57 ] ، وكقول أهل الكتاب : نحن الذين على دين إبراهيم ، وقولهم : كتابنا أسبق من كتاب المسلمين . وإطلاق اسم الحجة على شبُهاتهم مجاراة لهم بطريق التهكم ، والقرينةُ قوله { داحضة عند ربهم } .
ومفعول { يحاجون } محذوف دلّ عليه قوله : { من بعد ما استجيب له } ، والتقدير : يحاجون المستجيبين لله من بعد ما استجابوا له ، أي استجابوا لدعوته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم
وحذف فاعل { استجيب } إيجازاً لأن المقصود من بعد حصول الاستجابة المعروفة .
والداحضة : التي دَحَضت بفتح الحاء ، يقال : دَحَضت رِجلُه تدحض ( بفتح الحاء ) دُحوضاً ، أي زلت . استعير الدحض للبطلان بجامع عدم الثبوت كما لا تثبت القدَم في المكان الدَّحْضضِ ، ولم يبيَّن وجه دحضها اكتفاء بما بُيِّن في تضاعيف ما نَزل من القرآن من الأدلة على فساد تعدد الآلهة ، وعلى صدق الرّسول صلى الله عليه وسلم وعلى إمكان البعث ، وبما ظهر للعيان من تزايد المسلمين يوماً فيوماً ، وأمنهم من أن يُعتدى عليهم .
والغَضب : غضب الله ، وإنما نكّر للدلالة على شدته . ولم يُحْتَجْ إلى إضافته إلى اسم الجلالة أو ضميره لظهور المقصود من قوله : { حجتهم داحضة عند ربهم } فالتقدير : وعليهم غضب منه . وإنما قدم المسند على المسند إليه بقوله : { وعليهم غضب } للاهتمام بوقوع الغضب عليهم كما هو مقتضى حرف الاستعلاء المَجازي .
وكذلك القول في { ولهم عذاب شديد } . ولعل المراد به عذاب السيف في الدّنيا بالقتل يوم بدر .