فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) { أسْلَمَا } استسلما . يقال : سلَّم واستسلم وأسلم بمعنى : انقاد وخضع ، وحذف المتعلِّق لظهوره من السياق ، أي أسلما لأمر الله فاستسلام إبراهيم بالتهيُّؤ لذبح ابنه ، واستسلام الغلام بطاعة أبيه فيما بلغه عن ربه .
و { تلّه } : صرعه على الأرض ، وهو فعل مشتق من اسم التلّ وهو الصبرة من التراب كالكُدْية ، وأما قوله في حديث الشُّرْب «فتلّه في يده» أي القَدح ، فذلك على تشبيه شدة التمكين كأنه ألقاه في يده .
واللام في { لِلجَبِينِ } بمعنى ( على ) كقوله : { يخرون للأذقان سجداً } [ الإسراء : 107 ] ، وقوله تعالى : { دعانا لجنبه } [ يونس : 12 ] ، ومعناها أن مدخولها هو أسفل جزء من صاحبه .
والجبين : أحد جانبي الجبهة ، وللجبهة جبينان ، وليس الجبين هو الجبهة ولهذا خَطَّأوُا المتنبي في قوله :
وَخَلِّ زِيّاً لمن يُحقِّقه ... ما كُل دَاممٍ جبينُه عَابِدْ
وتبع المتنبيَ إطلاقُ العامة وهو خطأ ، وقد نبه على ذلك ابن قتيبة في «أدب الكتاب» ولم يتعقبه ابن السيِّد البطليوسي في «الاقتضاب» ولكن الحريري لم يعدّه في «أوهام الخواصّ» فلعله أن يكون غفل عنه ، وذكر مرتضَى في «تاج العروس» عن شيخه تصحيح إطلاق الجبين على الجبهة مجازاً بعلاقة المجاورة ، وأنشد قول زهير :
يَقيني بالجبين ومنكبيه ... وأدْفعه بمُطَّرد الكعوب
وزعم أن شارح ديوان زهير ذكر ذلك . وهذا لا يصح استعماله إلا عند قيام القرينة لأن المجاز إذا لم يكثر لا يستحق أن يعد في معاني الكلمة على أنا لا نسلم أن زهيراً أراد من الجبين الجبهة . ولم يذكر هذا في الأساس .
والمعنى : أنه ألقاه على الأرض على جانب بحيث يباشر جبينه الأرض من شدة الاتصال . ومناداة الله إبراهيم بطريق الوحي بإرسال الملك ، أسندت المناداة إلى الله تعالى لأنه الآمر بها .
وتصديق الرؤيا : تحقيقها في الخارج بأن يعمل صورة العمل الذي رآه يقال : رؤيا صادقة ، إذا حصل بَعدها في الواقع ما يماثل صورةَ ما رآه الرائي قال الله تعالى : { لقد صدق اللَّه رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] . وفي حديث عائشة : «أول ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَق الصبح» . وبضد ذلك يقال : كذبتْ الرؤيا ، إذا حصل خلاف ما رأى . وفي الحديث : " إذا اقترب الزمان لم تكد تَكذب رؤيا المؤمن " ، فمعنى { قد صدَّقْتَ الرؤيا } قد فعلتَ مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله . وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك .
والمراد : أنه صدق ما رآه إلى حدِّ إمرار السكين على رقبة ابنه ، فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطابُ نسخاً لما في الرؤيا من إيقاع الذبح ، وذلك جاء من قِبل الله لا من تقصير إبراهيم ، فإبراهيم صدَّق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مِثالها ، فأُطلق على تصديقه أكثرَها أنه صدَّقها ، وجُعِل ذبح الكبش تأويلاً لذبح الولد الواقع في الرؤيا .