} ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .
جاء الخطاب بيأيُّها الناس : ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان . فضمير الخطاب في قوله : { خلقكم } عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلاّ يختصّ بالمؤمنين ، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم . فلمَّا كان ما بعد هذا النداء جامعاً لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد ، إذ قال : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، فالمقصود من التقوى في { اتّقوا ربّكم } اتّقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات .
وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة .
وعبّر ب ( ربّكم ) ، دون الاسم العلم ، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي ، يدبّر شؤونه ، وليتأتّى بذكر لفظ ( الربّ ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى ، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالاً . وأمّا التقوى في قوله : { واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام } فالمقصد الأهمّ منها : تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال . ثم جاء باسم الموصول { الذي خلقكم } للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى .
ووَصْل { خلقكم } بصلة { من نفس واحدة } إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار . وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام ، لأنّ الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسباً من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة . وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه من ذوي رحمهم . وفي الآية تمهيد لما سَيُبَيَّنُ في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة .
والنفس الواحدة : هي آدم . والزوج : حوّاء ، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم . من ضلعه ، كما يقتضيه ظاهر قوله : { منها } .
و ( مِن ) تبعيضية . ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم .
قيل : من بقية الطينة التي خلق منها آدم . وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في «الصحيحين» .
ومن قال : إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه .
وعُطف قوله : { وخلق منها زوجها } على { خلقكم من نفس واحدة } ، فهو صلة ثانية . وقوله : { وبث منهما } صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى ، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكلّ من أصل واحد ، وإن كان خَلْقهم ما حصل إلاّ من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه .
وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة . وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب . ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة . وقد ورد في الحديث : أنّ حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف ( مِن ) في قوله : { وخلق منها } للابتداء ، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم . والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي حوّاء . وأطلق عليها اسمُ الزوج لأنّ الرجل يكون منفرداً فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة ( زوجة ) ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحناً . وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له : فقد قال ذو الرمّة :
أذو زوجة بالمصِر أمْ ذو خصومة ... أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال : إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقْل في حوانيت البقّالين ، يريد أنّه مولّد .
وقال الفرزدق :
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة . وتقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ) .
وقد شمل وخلق منها زوجها } العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب .
والبثّ : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى :
{ يوم يكون الناس كالفراش المبثوب } [ القارعة : 4 ] .
ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) . واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة .
شروع في التشريع المقصود من السورة ، وأعيد فعل { اتّقوا } : لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة ، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها ، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام .
واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين . لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله : { اتقوا ربكم } فهو مقام ترغيب . ومعنى { تسَّاءلون به } يَسْأل بعضكم بعضاً به في القسم فالمسايلة به تؤذن بمنتهى العظمة ، فكيف لا تتّقونه .
وقرأ الجمهور { تسَّاءلون } بتشديد السين لإدغام التاء الثانية ، وهي تاء التفاعل في السين ، لقرب المخرج واتّحاد الصفة ، وهي الهمس . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : تساءلون بتخفيف السين على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفاً .
{ والأرحام } قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله . وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور . فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها ، وهو على حذف مضاف ، أي اتّقاء حقوقها ، فهو من استعمال المشترك في معنييه ، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها ، وذلك قول العرب : «ناشدتك اللَّه والرحم» كما روى في «الصحيح» : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] فأخذت عتبة رهبة وقال : ناشدتك اللَّه والرحم . وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، حتّى قال المبرّد : «لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة» وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه ، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ ، فتكون تعريضاً بعوائد الجاهلية ، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها ، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم ، فناقضت أفعالُهم أقوالَهم ، وأيضاً هم قد آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه ، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] وقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] . وقال : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها .