وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) عطف على { قم الليل } [ المزمل : 2 ] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه ، أي اذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله : { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً } [ الإنسان : 25 ] .
وإقحام كلمة { اسم } لأن المأمور به ذكر اللسان وهو جامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول } [ الأعراف : 205 ] .
والتبتل : شدة البتل ، وهو مصدر تبتّل القاصر الذي هو مطاوع بَتَّله ف { تبتل } وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتّى كأنه فعله غيره به فَطاوعه ، والتبتل : الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي ، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله ، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب «إلى» الدالة على الانتهاء ، قال امرؤ القيس :
منارة مُمْسى راهب متَبَتِّل ... والتبتيل : مصدر بتَّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع .
وجيء بهذا المصدر عوضاً عن التبتل للإِشارة إلى أن حُصول التبتل ، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطْع . ولما كان التبتيل قائماً بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين { تبتل } و { تبتيلاً } مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل . وفيه مع ذلك وفاء بِرعي الفواصل التي قبله .
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل { وتبتل إليه } أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله . وكذلك منعشات الروح البريئة من الإِثم مثل الطِّيب ، وتزوج النساء ، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه ، وقد قال : «حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب» .
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإِعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة .
وفي حديث سعْد في «الصحيح» «ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذِن له لاختصينا» يعني ردّ عليه استشارته في الإِعراض عن النساء .