إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) من هنا يبتدىء ما لا خلاف في أنه مكي من هذه السورة .
وعلى كلا القولين فهذا استئناف ابتدائي ، ويجيء على قول الجمهور أن السورة كلها مكية وهو الأرجح ، أنه استئناف للانتقال من الاستدلال على ثبوت البعث بالحجّة والترهيب والوعيد للكافرين به والترغيب والوعد للمؤمنين به بمرهبّات ومرغّبات هي من الأحوال التي تكون بعد البعث ، فلمّا استوفى ذلك ثُنِي عِنانُ الكلام إلى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والربطِ على قلبه لِدفاع أن تلحقه آثارُ الغمّ على تصلب قومه في كفرهم وتكذيبهم بما أُنزل عليه مما شأنه أن يوهن العزيمة البشرية ، فذكَّره الله بأنه نزل عليه الكتاب لئلا يعبأ بتكذيبهم .
وفي إيراد هذا بعد طُول الكلام في أحوال الآخرة ، قضاء لحق الاعتناء بأحوال الناس في الدنيا فابتدىء بحال أشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بحال الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين من { يحبون العاجلة } [ الإنسان : 27 ] ومن { اتخذ إلى ربه سبيلاً } [ الإنسان : 29 ] فأدخلهم في رحمته .
وتأكيد الخبر ب ( إنَّ ) للاهتمام به .
وتأكيد الضمير المتصل بضمير منفصل في قوله : { إنا نحن } لتقرير مدلول الضمير تأكيداً لفظياً للتنبيه على عظمة ذلك الضمير ليفضي به إلى زيادة الاهتمام بالخبر إذ يتقرر أنه فِعْلُ من ذلك الضميرَاننِ له لأنه لا يفعل إلا فعلاً منوطاً بحكمة وأقصى الصواب .
وهذا من الكناية الرمزية ، وبعدُ فالخبر بمجموعه مستعمل في لازم معناه وهو التثبيت والتأييد فمجموعُه كناية ومزية .
وإيثار فعل { نزّلنا } الدال على تنزيله منجماً آياتتٍ وسُوراً تنزيلاً مفرقاً إدماجٌ للإِيماء إلى أن ذلك كان من حكمة الله تعالى التي أومأ إليها تأكيد الخبر ب ( إن ) وتأكيدُ الضمير المتصل بالضمير المنفصل ، فاجتمع فيه تأكيد على تأكيد وذلك يفيد مُفاد القصر إذ ليس الحصر والتخصيصُ إلاّ تأكيداً على تأكيد كما قال السكاكي ، فالمعنى : ما نزَّل عليك القرآن إلاّ أنا .
وفيه تعريض بالمشركين الذين قالوا : { لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدة } [ الفرقان : 32 ] فجعلوا تنزيله مفرقاً شبهة في أنه ليس من عند الله .
والمعنى : ما أنزله منجّماً إلاّ أنا واقتضت حكمتي أن أنزله عليك منجّماً .
وفرع على هذا التمهيد أمره بالصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه فيها من أذى المشركين ، وشدُّ عزيمته أن لا تخور .
وسمى ذلك حكماً لأن الرسالة عن الله لا خيرة للمرسَل في قبولها والاضطلاععِ بأمورها ، ولأن ما يحفّ بها من مصاعب إصلاح الأمة وحملِها على ما فيه خيرها في العاجل والآجل ، وتلقي أصناف الأذى في خلال ذلك حتى يتمّ ما أمر الله به ، كالحكم على الرسول بقبوللِ ما يبلغ منتهى الطاقة إلى أجللٍ معين عند الله .
وعدي فعل ( اصبر ) باللام لتضمن الصبر معنى الخضوع والطاعة للأمر الشاق ، وقد يعدّى بحرف ( على ) كما قال تعالى :