كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) استئناف ابتدائي لظهور أنه في غرض لا اتصال له بالكلام الذي قبله .
وحرف { كلاّ } ردع وإبطال ، وليس في الجملة التي قبله ما يحتمل الإِبطال والردع ، فوجود { كلا } في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } الآية .
وحقُّ { كلاّ } أن تقع بعد كلام لإِبطاله والزجر عن مضمونه ، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإِبطال وبردع قائله ، فابتدىء الكلام بحرف الردع للإِبطال ، ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يَلي الحرف كما في قول امرىء القيس :
فلا وأبيككِ ابْنة العَامِر
يّ لا يدَّعي القومُ أنّي أفِرّ
رَوى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : «قال أبو جهل : هل يَعْفِرُ محمد وجهه ( أي يسجد في الصلاة ) بين أظهركم؟ فقيل : نعم ، فقال : واللاتتِ والعزى لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطَأنَّ على رقبته فأتَى رسولَ الله وهو يصلي زعَم لِيطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو يَنْكص على عقبيه ويتّقي بيده . فقيل له : ما لك يا أبا الحَكم؟ قال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دَنا مني لاختطفته الملائكة عُضْواً عضواً قال : فأنزل الله ، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه : { إن الإنسان ليطغى } الآيات اه .
وقال الطبري : ذكر أن آية { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا : لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن رقبته . فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءاً بقوله : { أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى } .
ووجه الجمع بين الروايتين : أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوّله { أرأيت الذي ينهى } الخ ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو : { إن الإنسان ليطغى } إلى { الرجعى } .
واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذِكر الصلاة فيها . وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناءً على أن الصلاة فُرضت ليلة الإِسراء وكانَ الإِسراء بعد البعثة بسنين ، فقال بعضهم : إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة ، ونزل بينهن قرآن آخر ثم نزلت هذه الآيات ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها ، وقال بعض آخر : ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن .
وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عَقبه من الحوادث أن الوحي فتَر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى ، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة .
وقال السهيلي : كانت المدة سنتين ، وفيه بعد . وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبريل ويتلقى منه وحياً ليس من القرآن . وقال السهيلي في «الروض الأنُف» : ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإِسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس ( أي العصر ) وصلاة قبل طلوعها ( أي الصبح ) ، وقال يحيى بن سلام مثله ، وقال : كان الإِسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اه . فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى : { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها .
فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن ، جرياً على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بيِّن ، وجرياً على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت .