القول في تأويل قوله تعالى : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره (3) اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده, لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى.
وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: (4) عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل.
يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين.
* * *
يعني بقوله: " فلا تكونن من الممترين "، أي: فلا تكونن من الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما:
2272- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام: " الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين "، يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك. (5)
2273- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " فلا تكونن من الممترين " قال، من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما " الممتري" (6) " مفتعل "، من " المرْية ", و " المِرْية " هي الشك, ومنه قول الأعشى:
تَــدِرُّ عَــلَى أَسْــوُقِ المُمْـتَرِينَ
رَكْضًـا, إِذَا مَـا السَّـرَابُ ارْجَحَـــنّ (7)
* * *
ءقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه, أو في أن القبلة التي وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في ذلك، فقيل له: " فلا تكونن من الممترين "؟
قيل: ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره, كما قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [سورة الأحزاب: 1]، ثم قال: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة الأحزاب: 2]. فخرج الكلام مخرج الأمرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والنهيِ له, والمراد به أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما أغنَى عن إعادته. (8)
-------------------
الهوامش :
(3) في المطبوعة : "يقول الله جل ثناؤه" ، وأثبت نص المخطوطة .
(4) في المطبوعة"وهذا من الله تعالى ذكره خبر" ، وأثبت ما في المخطوطة .
(5) في المطبوعة : "فلا تكن في شك أنها" ، بإسقاط الفاء من"فإنها" .
(6) في المطبوعة : "والممتري" ، وأثبت ما في المخطوطة .
(7) ديوانه : 20 واللسان (رجحن) من قصيدة سلف بيت منها في 1 : 345 ، 346 ، يصف خيلا مغاوير لقيس بن معديكرب الكندي ، أغارت على قوم مسرعة حثيثة ، فبينا القوم يتمارون فيها إذا بها : -
تُبَـــارِي الزِّجَـــاجَ مَغَاوِيرُهَــا
شَــمَاطِيط فــي رَهَــجٍ كـالدَّخَنْ
تَـــدِرُّ عَـــلَى أســـوُق . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
در الفرس يدر دريرًا ودرة : عدا عدوًا شديدًا . لا يثنيه شيء . والأسوق جمع ساق ، ويجمع أيضًا على سوق وسيقان . يقول : بيناهم يتمارون إذ غشيتهم الخيل فصرعتهم ، فوطئتهم وطئًا شديدًا ، ومرت على سيقانهم عدوًا . وارجحن السراب : ارتفع واتسع واهتز ، وذلك في وقت ارتفاع الشمس .
(8) انظر ما سلف 2 : 484- 488 .