القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ
قال أبو جعفر: " الميثاق "،" المفعال "، من " الوثيقة "، إما بيمين, وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. (26)
ويعني بقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [ البقرة: 83-85] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:-
1115 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله, فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. (27) فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم, فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم, فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! (28) قال: خذوا &; 2-157 &; كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم, فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم, هذا الطور, قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا حتى بلغ: وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ البقرة: 83-85]، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق. (29)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى : وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
قال أبو جعفر: وأما " الطور " فإنه الجبل في كلام العرب, ومنه قول العجاج:
دانَــى جناحيـه مـن الطـور فمـر
تَقَضِّــيَ البـازي إذا البـازي كسـر (30)
وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت. (31)
* * *
* ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان:
1116 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حِطَّةٌ وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا, فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم, وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة = و " الطور "، بالسريانية، الجبل = تخويفا، أو خوفا, شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه. (32)
1117 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة, فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية: " الطور ".
1118 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم, فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.
1119 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (ورفعنا فوقكم الطور)، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم, فقال: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ فأقروا بذلك.
1120 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع, عن أبي العالية: (ورفعنا فوقكم الطور) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.
&; 2-159 &;
1121 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن النضر, عن عكرمة قال: الطور الجبل.
1122 - وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم, فنظروا إليه وقد غشيهم, فسقطوا سجدا على شق, ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [ الأعراف: 171] ، وقوله: ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ).
1123 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور.
* * *
وقال آخرون: " الطور " اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه.
* ذكر من قال ذلك:
1124 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنـزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ .
* * *
وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
1125 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس في قوله: (الطور) قال: الطور من الجبال ما أنبت, وما لم ينبت فليس بطور.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة, وإلا قذفناه عليكم.
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه, فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام -الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه " أن " كما قال الله جل ثناؤه إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ [ نوح: 1] قال: ويجوز أن تحذف " أن ".
والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به -مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره.
ويعني بقوله: (خذوا ما آتيناكم)، ما أمرناكم به في التوراة.
وأصل " الإيتاء "، الإعطاء. (33)
* * *
ويعني بقوله: (بقوة) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:-
1126 - حدثت عن إبراهيم بن بشار قال، : حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (خذوا ما آتيناكم بقوة). قال: تعملوا بما فيه.
1127 - وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.
1128 - وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن &; 2-161 &; الربيع, عن أبي العالية: (خذوا ما آتيناكم بقوة)، قال: بطاعة.
1129 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: (خذوا ما آتيناكم بقوة). قال: " القوة " الجد, وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.
1130 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (بقوة)، يعني: بجد واجتهاد.
1131 - وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله: (خذوا ما آتيناكم بقوة) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق.
* * *
فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة ، بجد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب, فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، (34) بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنـزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:-
1132 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق, عن &; 2-162 &; داود بن الحصين, عن عكرمة عن ابن عباس: (لعلكم تتقون)، قال: تنـزعون عما أنتم عليه.
* * *
والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:-
1133 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع, عن أبي العالية: (واذكروا ما فيه) يقول: اذكروا ما في التوراة.
1134 - كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: (واذكروا ما فيه) يقول: أمروا بما في التوراة.
1135 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله: (واذكروا ما فيه)، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. (35) قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه.
-----------------
الهوامش :
(26) انظر ما سلف 1 : 414 ، في قوله تعالى : "من بعد ميثاقه" [سورة البقرة : 27] .
(27) في المطبوعة : "وأمره الذي أمركم" ، والتصحيح من روايته في رقم : 959 .
(28) في رقم : 959 : "قالوا أصابنا أنا متنا . . " .
(29) الأثر رقم : 1115 - مضى أكثره في رقم : 959 .
(30) ديوانه : 17 ، وهو من قصيدة جيدة يذكر فيها مآثر عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي ، وقد ولي الولايات العظيمة ، وفتح الفتوح الكثيرة ، وقاتل الخوارج . والضمير في قوله : "دانى" يعود إلى متأخر ، وهو"البازي" المذكور في البيت بعده . فإن قبله ، ذكر عمر بن عبيد الله وكتائبه من حوله :
حـول ابـن غـراء حصـان إن وتر
فــات, وإن طـالب بـالوغم اقتـدر
إذا الكـرام ابتــدروا البـاع ابتـدر
دانــــى جناحيــــه .........
يريد : "ابتدر منقضا انقضاض البازي من الطور ، دانى جناحيه . . فمر" فقدم وأخر . وهو من جيد التقديم والتأخير . وقوله : "دانى" أي ضم جناحيه وقر بهما وضيق ما بينهما تأهبا للانقضاض من ذروة الجبل . ومر : أسرع إسراعا شديدا . وقوله : "تقضى" أصلها"تقضض" ، فقلب الضاد الأخيرة ياء ، استثقل ثلاث ضادات ، كما فعلوا في"ظنن""وتظنى" على التحويل . وتقضض الطائر : هوى في طيرانه يريد الوقوع . والبازي : ضرب من الصقور ، شديد . وكسر الطائر جناحيه : ضم منهما شيئا - أي قليلا- وهو يريد السقوط .
(31) هذا قول لم أجده في كتب اللغة في مادته .
(32) الأثر رقم : 1116 - مضى صدر منه برقم : 1027 .
(33) انظر ما سلف 1 : 574 .
(34) انظر ما مضى في بيان"لعل" بمعنى"كى" 1 : 364 -365 ، وهذا الجزء 2 : 68 .
(35) في المطبوعة : "بطاعة الله وصدق" خطأ .