إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين؛ فالجملة استئناف ابتدائي ، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين ، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين .
وجُعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيهاً على أن محبة ذلك تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين . ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيراً حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يُسَر بصدور ذلك من غيره ، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه . وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار . وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة . وتلك المحبة شيء غير الهمّ بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما ، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب . وهذا نظير الكناية في قوله تعالى : { ولا يحض على طعام المسكين } [ الماعون : 3 ] كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين . فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله : { أن تشيع } لأن ( أن) تخلص المضارع للمستقبل . وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } [ النور : 14 ] .
ومعنى : { أن تشيع الفاحشة } أن يشيع خبرها ، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو : اشتهار التحدث بها . فتعين تقدير مضاف ، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حداً عظيماً في الشناعة .
وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } في سورة النساء ( 15) . وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } في سورة الأعراف ( 28) . وتقدم الفحشاء في قوله تعالى : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169) .
ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه ، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك يجب عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين . ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو بالكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويداً رويداً حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس ، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة .
هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضراً متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب .
ولهذا ذيل هذا الأدب الجليل بقوله : { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله : { وتحسبونه هيّناً وهو عند الله عظيم } [ النور : 15 ] .