إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) استئناف لبيان جملة { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] الآية ، فالذين يتلون كتاب الله هم المراد بالعلماء ، وقد تخلّص إلى بيان فوز المؤمنين الذين اتَّبعوا الذكر وخشوا الرحمان بالغيب فإن حالهم مضادّ لحال الذين لم يسمعوا القرآن وكانوا عند تذكيرهم به كحال أهل القبور لا يسمعون شيئاً . فبعد أن أثنى عليهم ثناء إجمالياً بقوله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ، وأجمل حسن جزائهم بذكر صفة { غفور } [ فاطر : 28 ] ولذلك ختمت هذه الآية بقوله : { إنه غفور شكور } فُصِّل ذلك الثناء وذكرت آثاره ومنافعه .
فالمراد ب { الذين يتلون كتاب الله } المؤمنون به لأنهم اشتهروا بذلك وعُرفوا به وهم المراد بالعلماء . قال تعالى : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } [ العنكبوت : 49 ] . وهو أيضاً كناية عن إيمانهم لأنه لا يتلو الكتاب إلا من صدّق به وتلقاه باعتناء . وتضمن هذا أنهم يكتسبون من العلم الشرعي من العقائد والأخلاق والتكاليف ، فقد أشعر الفعل المضارع بتجدد تلاوتهم فإن نزول القرآن متجدد فكلما نزل منه مقدار تلقوه وتدارسوه .
وكتاب الله القرآن وعدل عن اسمه العلم إلى اسم الجنس المضاف لاسم الجلالة لما في إضافته إليه من تعظيم شأنه .
وأتبع ما هو علامة قبول الإِيمان والعلم به بعلامة أخرى وهي إقامة الصلاة كما تقدم في سورة البقرة ( 2 ) { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } فإنها أعظم الأعمال البدنية ، ثم أتبعت بعمل عظيم من الأعمال في المال وهي الإِنفاق ، والمراد بالإِنفاق حيثما أطلق في القرآن هو الصدقات واجبها ومستحبها وما ورد الإِنفاق في السور المكية إلا والمراد به الصدقات المستحبة إذ لم تكن الزكاة قد فرضت أيامئذ؛ على أنه قد تكون الصدقة مفروضة دون نُصب ولا تَحديد ثم حدِّدت بالنصب والمقادير .
وجيء في جانب إقامة الصلاة والإِنفاق بفعل المضي لأن فرض الصلاة والصدقة قد تقرر وعملوا به فلا تجدد فيه ، وامتثال الذي كلفوا به يقتضي أنهم مداومون عليه .
وقوله : مما رزقناهم } إدماج للامتنان وإيماء إلى أنه إنفاق شكر على نعمة الله عليهم بالرزق فهم يعطون منه أهل الحاجة .
ووقع الالتفات من الغيبة من قوله : { كتاب الله } إلى التكلم في قوله : { مما رزقناهم } لأنه المناسب للامتنان .
وانتصب { سراً وعلانية } على الصفة لمصدر { أنفقوا } محذوففٍ ، أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمصدر مبين للنوع .
والمعنى : أنهم لا يريدون من الإِنفاق إلا مرضاة الله تعالى لا يراءون به ، فهم ينفقون حيث لا يراهم أحد وينفقون بمرأى من الناس فلا يصدهم مشاهدة الناس عن الإِنفاق .
وفي تقديم السر إشارة إلى أنه أفضل لانقطاع شائبة الرياء منه ، وذكر العلانية للإِشارة إلى أنهم لا يصدهم مرأى المشركين عن الإِنفاق فهم قد أعلنوا بالإِيمان وشرائعه حبّ من حبّ أو كره من كره .
و { يرجون تجارة } هو خبر { إن } .
والخبر مستعمل في إنشاء التبشير كأنه قيل : لِيرجُوا تجارة ، وزاده التعليلُ بقوله : { ليوفيهم أجورهم } قرينةً على إرادة التبشير .
والتجارة مستعارة لأعمالهم من تلاوة وصلاة وإنفاق .
ووجه الشبه مشابهة ترتب الثواب على أعمالهم بترتب الربح على التجارة .
والمعنى : ليرجوا أن تكون أعمالهم كتجارة رابحة .
والبوار : الهلاك . وهلاك التجارة : خسارة التاجر . فمعنى { لن تبور } أنها رابحة . و { لن تبور } صفة { تجارة } . والمعنى : أنهم يرجون عدم بوار التجارة .
فالصفة مناط التبشير والرجاء لا أصل التجارة لأن مشابهة العمل الفظيع لعمل التاجر شيء معلوم .