أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
إضراب انتقالي عطفاً على قوله : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [ الشورى : 21 ] وهو الكلام المضرَب عنه والمنتقل منه ، والمراد الانتقال إلى توبيخ آخر ، فالهمزة المقدرة بعد { أم } للاستفهام التوبيخي ، فإنهم قالوا ذلك فاستحقوا التوبيخ عليه . والمعنى : أم قالوا افترى ويقولونه .
وجيء بفعل { يقولون } بصيغة المضارع ليتوجه التوبيخ لاستمرارهم على هذا القول الشنيع مع ظهور دلائل بطلانه . فإذا كان قولهم هذا شنعاً من القول فاستمرارهم عليه أشنع .
وفُرع على توبيخهم على ذلك قوله : { فإن يشأ الله يختم على قلبك } وهو تفريع فيه خفاء ودقّة لأن المتبادر من التفريع أنّ ما بعد الفاء إبطال لما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتوكيد للتوبيخ فكيف يستفاد هذا الإبطال من الشرط وجوابِه المفرعين على التوبيخ .
وللمفسرين في بيان هذا التفريع وترتبه على ما قبله أفهام عديدة لا يخلو معظمها عن تكلف وضعف اقتناع . والوجه في بيانه : أن هذا الشرط وجوابَه المفرَّعين في ظاهر اللفظ على التوبيخ والإبطال هما دليل على المقصود بالتفريع المناسب لتوبيخهم وإبطاللِ قولهم ، وتقديرُ المفرع هكذا : فكيف يَكون الافتراء منك على الله والله لا يُقِر أحداً أن يكذب عليه فلو شاء لختم على قلبك ، أي سلبك العقل الذي يفكر في الكذب فتفحم عن الكلام فلا تستطيع أن تتقول عليه ، أي وليس ثمة حائل يحول دون مشيئة الله ذلك لو افتريت عليه ، فيكون الشرط كناية عن انتفاء الافتراء لأن الله لا يقرّ من يكذب عليه كلاماً ، فحصل بهذا النظم إيجاز بديع ، وتكون الآية قريباً من قوله تعالى : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لَقَطَعْنَا منه الوتِين } [ الحاقة : 44 46 ] .
ولابن عطية كلمات قليلة يؤيد مغزاها هذا التقرير مستندة لقول قتادة محمولاً على ظاهر اللفظ من كون ما بعد الفاء هو المفرع ، ويكون الكلام كناية عن الإعراض عن قولهم : { افترى على الله كذباً } ، أي أن الله يخاطب رسوله بهذا تعريضاً بالمشركين . والمعنى : أن افتراءه على الله لا يهمكم حتى تناصبوا محمداً صلى الله عليه وسلم العداء ، فالله أولى منكم بأن يغار على انتهاك حرمة رسالته وبأن يذب عن جلاله فلا تجعلوا هذه الدعوى همكم فإن الله لو شاء لختم على قلبك فسلبك القدرة على أن تنسب إليه كلاماً . وهذان الوجهان هما المناسبان لموقع الآية ، ولفاء التفريع ، ولما في الشرط من الاستقبال ، ولوقوع فعل الشرط مضارعاً ، فالوقف على قوله : { على قلبك } وهو انتهاء كلام .
وجملة { ويمح الله الباطل } معطوفة على التفريع ، وهي كلام مستأنف ، مراد منه أن الله يمحو باطل المشركين وبهتانهم ويحقق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم
وعلى مراعاة هذا المعنى جرى جمع من أهل التفسير مثل الكسائي وابن الأنباري والزجاج والزمخشري ولم يجعلوا { ويمح } عطفاً على فعل الجزاء لأن المتبادر أن هذا وعد من الله بإظهار الإسلام ، ووعيد المشركين بأن دينهم زائل .
وهذا هو المتبادر من رفع { ويحقُّ } باتفاق القراء على رفعه ، والمراد بالمحو على هذا : الإزالةُ . والمراد بالباطلِ : الباطل المعهود وهو دين الشرك . وبالحق : الحق المعهود ، وهو الإسلام .
أو يكون المعنى أن من شأن الله تعالى أن يزيل الباطل ويفضحه بإيجاد أسباب زواله وأن يوضح الحقّ بإيجاد أسباب ظهوره ، حتى يكون ظهوره فاضحاً لبطلان الباطل فلو كان القرآن مفترى على الله لفضح الله بطلانه وأظهر الحق ، فالمراد بالباطل : جنس الباطل ، وبالحق جنس الحق ، وتكون الجملة كالتذييل للتفريع . والمعنى الأول أنسب بالاستئناف ، ولإفادته الوعيد بإزالة ما هم عليه ونصر المسلمين عليهم .
وعلى كلا المعنيين فقوله : { ويمح الله الباطل } كلامٌ مستأنف ليس معطوفاً على جزاء الشرط إذ ليس المعنى على : إنْ يشأ الله يمحُ الباطل ، بل هو تحقيق لمحوه للباطل كقوله تعالى : { إن الباطل كان زهوقاً } [ الإسراء : 81 ] ، كما دل عليه رفع { ويحقُّ الحق بكلماته } ، ففعل { يمحُ } مرفوع وحقه ظهور الواو في آخره ، ولكنها حذفت تخفيفاً في النطق ، وتبع حذفَها في النطق حذفُها في الرسم اعتباراً بحال النطق كما حذف واو { سندعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] وواو { ويدْع الإنسان بالشر دعاءه بالخير } [ الإسراء : 11 ] . وذكر في «الكشاف» أن الواو ثبتت في بعض المصاحف ولم يعيّنه ولا ذكره غيره فيما رأيت .
وإظهار اسم الجلالة في قوله : { ويمح الله الباطل } دون أن يقول : ويمحُ الباطل ، لتقوية تمكن المسند إليه من الذهن ولإظهار عناية الله بمحو الباطل . وإنما عُدل على الجملة الاسمية في صوغ { ويمح الله الباطل } فلم يقل : والله يمحو الباطل ، لأنه أريد أن ما في إفادة المضارع من التجدد والتكرير إيماء إلى أن هذا شأن الله وعادته لا تتخلف ولم يقصد تحقيق ذلك وتثبيته لأن إفادة التكرير تقتضي ذلك بطريق الكناية فحصل الغرضان .
والباء في { بكلماته } للسببية ، والكلمات هي : كلمات القرآن والوحي كقوله { يريدون أن يبدّلوا كلام الله } [ الفتح : 15 ] ، أو المراد : كلمات التكوين المتعلقة بالإيجاد على وفق علمه كقوله : { لا مبدل لكلماته } [ الكهف : 27 ] . وإنما جاء هذا الرد عليهم بأسلوب الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن ذلك أقوى في الاعتناء بتلقينه جواب تكذيبهم لأن المقام مقام تفظيع لبهتانهم ، وهذا وجه التخالف بين أسلوب هذه الآية وأسلوب قوله تعالى : { قل لو شاء الله ما تلوتهُ عليكم ولا أدْرَاكُم به } [ يونس : 16 ] لأن ذلك لم يكن مسوقاً لإبطال كلام صدر منهم .
وجملة { إنه عليم بذات الصدور } تعليل لمجموع جملتي { فإن يشإ الله } إلى قوله : { بكلماته } ، أي لأنه لا يخفى عليه افتراء مُفترٍ ولا صدقُ محقَ . و ( ذات الصدور ) : النوايا والمقاصد التي يضمرها الناس في عقولهم . والصدور : العقول ، أطلق عليها الصدور على الاستعمال العربي ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } في سورة الأنفال ( 43 ) .