لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
بدل مما يصلح أن يكون بدلاً منه من أسماء الأصناف المتقدمة التي دخلت عليها اللام مباشرة وعطفاً قوله : { ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] بدل بعض من كل .
وأول فائدة في هذا البدل التنبيه على أن ما أفاء الله على المسلمين من أهل القرى المعْنية في الآية لا يجري قسمه على ما جرى عليه قسم أموال بني النضير التي اقتُصر في قسمها على المهاجرين وثلاثة من الأنصار ورابع منهم ، فكأنه قيل : ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل لِلفقراء منهم لا مطلقاً ، يدخل في ذلك المهاجرون والأنصار والذين آمنوا بعدهم .
وأعيد اللام مع البدل لربطه بالمبدل منه لانفصال ما بينهما بطول الكلام من تعليل وتذييل وتحذير . ولإِفادة التأكيد .
وكثيراً ما يقترن البدل بمثل العامل في المبدل منه على وجه التأكيد اللفظي ، وتقدم في قوله تعالى : { تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا } في سورة [ العقود : 114 ] . فبقي احتمال أن يكون قيداً { لذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ الحشر : 7 ] ، فيتعين أن يكون قوله : { للفقراء } إلى آخره مسوقاً لتقييد استحقاق هؤلاء الأصناف وشأن القيود الواردة بعد مفردات أن ترجع إلى جميع ما قبلها ، فيقتضي هذا أن يُشترط الفقر في كل صنف من هذه الأصناف الأربعة ، لأن مطلقها قد قُيّد بقيد عَقب إطلاق ، والكلام بأواخره فليس يجري هنا الاختلاف في حمل المطلق على المقيد ، ولا تجري الصور الأربع في حمل المطلق على المقيد من اتحاد حكمهما وجنسهما . ولذلك قال مالك وأبو حنيفة : لا يعطى ذوو القربى إلا إذا كانوا فقراء لأنه عوض لهم عما حرموه من الزكاة . وقال الشافعي وكثير من الفقهاء : يشترط الفقر فيما عدا ذوي القربى لأنه حق لهم لأجل القرابة للنبيء صلى الله عليه وسلم قال إمام الحرمين : أغلظ الشافعي الرد على مذهب أبي حنيفة بأن الله علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة ، فاشتراطُها وعدمُ اعتبار القرابة يضارّه ويحَادّه .
قلت : هذا محل النزاع فإن الله ذكر وصف اليتامى ووصف ابن السبيل ولم يشترط الحاجة .
واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حُرمت على ذوي القربى كانت فائدة ذكرهم في خمس الفيْء والمغانم أنه لا يمتنع صرفه إليهم امتناعَ صرف الصدقات ، ثم قال : لا تغترَّ بالاعتذار فإن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفاً لهم فمن علّله بالحاجة فَوّت هذا المعنى اه .
وعند التأمل تجد أن هذا الرد مدخول ، والبحث فيه يطول . ومحله مسائل الفقه والأصول .
ومن العلماء والمفسرين من جعل جملة { للفقراء المهاجرين } ابتدائية على حذف المبتدأ . والتقدير : ما أفاء الله على رسوله للمهاجرين الفقراء إلى آخر ما عطف عليه فتكون هذه مصارف أخرى للفيء ، ومنهم من جعلها معطوفة بحذف حرف العطف على طريقة التعداد كأنه قيل : فلله وللرسول ، إلى آخره ، ثم قيل : { للفقراء المهاجرين } .
فعلى هذين القولين ينتفي كونها قيداً للجملة التي قبلها ، وتنفتح طرائق أخرى في حمل المطلق على المقيد ، والاختلاف في شروط الحمل ، وهي طرائق واضحة للمتأمل ، وعلى الوجه الأول يكون المعوّل .
ووُصِف المهاجرون بالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تنبيهاً على أن إعطاءهم مراعىً جبر مَا نكبوا به من ضياع الأموال والديار ، ومراعىً فيه إخلاصهم الإيمان وأنهم مكرّرُون نصرَ دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فذيل بقوله : { أولئك هم الصادقون } .
واسم الإِشارة لتعظيم شأنهم وللتنبيه على أن استحقاقهم وصف الصادقين لأجل ما سبق اسمَ الإِشارة مِن الصفات وهي أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وابتغاؤهم فضلاً من الله ورضواناً ونصرهم الله ورسوله فإن الأعمال الخالصة فيما عملت لأجله يَشهد للإِخلاص فيها ما يلحق عاملها من مشاقّ وأذى وإضرار ، فيستطيع أن يخلص منها لو ترك ما عمله لأجلها أو قصر فيه .
وجملة { هم الصادقون } مفيدة القصر لأجل ضمير الفصل وهو قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بالصدق الكامل كأنَّ صدق غيرهم ليس صدقاً في جانب صدقهم .
وموقع قوله : { أولئك هم الصادقون } كموقع قوله : { وأولئك هم المفلحون } في سورة [ البقرة : 5 ] .