تحذير من التواني في قتالهم عدا ما استثني منهم بعد الأمر بقتلهم ، وأسرهم ، وحصارهم ، وسدّ مسالك النجدة في وجوههم ، بقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلى قوله كل مرصد } [ التوبة : 5 ]. وبعد أن أثبتت لهم ثمانية خلال تغري بعدم الهوادة في قتالهم ، وهي قوله : { كيف يكون للمشركين عهد } [ التوبة : 7 ] وقوله : { كيف وإن يظهروا عليكم } [ التوبة : 8 ] وقولُه { يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } [ التوبة : 8 ] وقولُه : { وأكثرهم فاسقون } [ التوبة : 8 ] وقولُه : { اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً } [ التوبة : 9 ] وقولُه : { لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } [ التوبة : 10 ] وقولُه : { وأولئك هم المعتدون } [ التوبة : 10 ] وقولُه : { إنهم لا أيمان لهم } [ التوبة : 12 ].
فكانت جملة { ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم } تحذيراً من التراخي في مبادرتهم بالقتال .
ولفظ { ألا } يحتمل أن يكون مجموع حرفين : هما همزة الاستفهام ، و ( لا ) النافيةُ ، ويحتمل أن يكون حرفاً واحداً للتحْضيض ، مثل قوله تعالى : { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } [ النور : 22 ]. فعلى الاحتمال الأول يجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً ، على انتفاء مقاتلة المشركين في المستقبل ، وهو ما ذهب إليه البيضاوي ، فيكون دفعاً لأن يَتوهَّم المسلمون حُرمة لتلك العهود . ويجوز أن يكون الاستفهام تقريرياً ، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب «الكشّاف» ، تقريراً على النفي تنزيلاً لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه ، قال في «الكشاف» : ومعناه الحضّ على القتال على سبيل المبالغة ، وفي «مغني اللبيب» أن { ألا التي للاستفهام عن النفي تختصّ بالدخول على الجملة الاسمية ، وسلّمه شارحاه ، ولا يخفى أنّ كلام الكشاف } ينادي على خلافه .
وعلى الاحتمال الثاني أن يكون { ألا } حرفاً واحداً للتحْضيض فهو تحْضيض على القتال . وجَعَل في «المغني» هذه الآية مثالاً لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعلّ موجب هذا التفنّن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه : أن كثيراً من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم ، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم ، فلذلك لمّا أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنّة التثاقل عنه خشية الهزيمة ، بعد أن فازوا بسُمعة النصر ، وفي قوله عقبه { أتخشونهم } ما يزيد هذا وضوحاً .
أمّا نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدّم عند قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم من المشركين } [ التوبة : 4 ] وقوله { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم } [ التوبة : 4 ] الآية . وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدّم .
وأمّا همّهم بإخراج الرسول فظاهره أنّه همٌّ حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة ، أي نفيه عنها لأن إخراجه من مكّة أمر قد مضى منذ سنين ، ولأنّ إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أنّ همّهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبّه المسلمين إليه .
وهو أنّهم لمّا نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهّموا أنفسهم منصورين وأنّهم إن انتصروا أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة .
و ( الهم ) هو العزم على فعل شيء ، سواء فعله أم انصرف عنه . ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرّد الهمّ بإخراج الرسول تدلّ على أنّهم لم يخرجوه ، وإلاّ لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهمّ به ، كما في قوله : { إذ أخرجه الذين كفروا } [ التوبة : 40 ] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلاّ لِمَا حيل بينهم وبين تنفيذه ، فعن الحسن : همّوا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوْه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب ، أي فكفاه الله سوء ما همّوا به ، ولا يجوز أن يكون المراد إخراجه من مكة للهجرة لأنّ ذلك قد حدث قبل انعقاد العهد بينهم وبين المسلمين في الحديبية ، فالوجه عندي : أنّ المعنيَّ بالذين هَمّوا بإخراج الرسول قبائل كانوا معاهدين للمسلمين ، فنكثوا العهد سنة ثمان ، يوم فتح مكة ، وهمّوا بنجدة أهل مكة يوم الفتح ، والغدر بالنَّبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين ، وأن يأتوهم وهم غارون ، فيكونوا هم وقريش ألباً واحداً على المسلمين ، فيُخرجون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من مكة ، ولكنّ الله صرفهم عن ذلك بعد أن همّوا ، وفضح دخيلتهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وأمره بقتالهم ونبذِ عهدهم في سنة تسع ، ولا ندري أقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أم كان إعلان الأمر بقتالهم ( وهم يعلمون أنهم المراد بهذا الأمر ) سبباً في إسلامهم وتوبة الله عليهم ، تحقيقاً للرجاء الذي في قوله : { لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ] ولعل بعض هؤلاء كانوا قد أعلنوا الحرب على المسلمين يوم الفتح ناكثين العهد ، وأمدّوا قريشاً بالعدد ، فلمّا لم تنشب حرب بين المسلمين والمشركين يومئذٍ أيسوا من نصرتهم فرجعوا إلى ديارهم ، وأغضى النبي صلى الله عليه وسلم عنهم ، فلم يؤاخذهم بغدْرهم ، وبقي على مراعاة ذلك العهد ، فاستمرّ إلى وقت نزول هذه الآية ، وذلك قوله : { وهم بدوءكم أول مرة } أي كانوا البادئين بالنكث ، وذلك أنّ قريشاً انتصروا لأحلافهم من كنانة ، فقاتلوا خزاعة أحلاف المسلمين .
و { أول مرة } نَصْب على المصدرية . وإضافة { أول } إلى { مرة } من إضافة الصفة إلى الموصوف . والتقدير : مرة أولى والمرّة الوَحدة من حدث يحدث ، فمعنى { بدءوكم أول مرة } بدأوكم أوّل بدء بالنكث ، أي بَدْءا أولَ؛ فالمَرّة اسم مبهم للوحدة من فعل ما ، والأغلب أن يفسر إبهامه بالمقام ، كما هنا ، وقد يفسّره اللفظ .
و { أوّل } اسم تفضيل جاء بصيغة التذكير ، وإن كان موصوفه مؤنّثاً لفظاً ، لأن اسم التفضيل إذا أضيف إلى نكرة يلازم الإفراد والتذكير بدلالة المضاف إليه ويقال : ثاني مرة وثالث مرّة .
والمقصود من هذا الكلام تهديدهم على النكث الذي أضمروه ، وأنّه لا تسامح فيه .
وعلى كلّ فالمقصود من إخراج الرسول عليه الصلاة والسلام : إمّا إخراجه من مكة منهزماً بعدَ أن دخلها ظافراً ، وإمّا إخراجه من المدينة بعد أن رجع إليها عقب الفتح ، بأن يكونوا قد همّوا بغزو المدينة وإخراج الرسول والمسلمين منها وتشتيت جامعة الإسلام .
وجملة { أتخشونهم } بدل اشتمال من جملة { ألا تقاتلون } فالاستفهام فيها إنكار أو تقرير على سبب التردّد في قتالهم ، فالتقدير : أينتفي قتالكم إيّاهم لَخشيكم إياهم ، وهذا زيادة في التحريض على قتالهم .
وفُرّع على هذا التقرير جملة { فالله أحق أن تخشوه } أي فالله الذي أمركم بقتالهم أحقّ أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطر عدم الامتثال لأمره ، إن كنتم مؤمنين ، لأنّ الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردّد في نجاح الامتثال له .
وجيء بالشرط المتعلّق بالمستقبل ، مع أنّه لا شكّ فيه ، لقصد إثارة همّتهم الدينية فيبرهنوا على أنّهم مؤمنون حقّا يقدمون خشية الله على خشية الناس .