هذه الجملة واقعة موقع البيان لجملة { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } [ التوبة : 43 ]. وموقع التعليل لجملة { لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] أو هي استئناف بياني لما تثيره جملة { حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } [ التوبة : 43 ] والاعتبارات متقاربة ومآلها واحد .
والمعنى : إنّ شأن المؤمنين الذين استنفروا أن لا يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجهاد ، فأمّا أهل الأعذار : كالعُمي ، فهم لا يستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمّا الذين تخلّفوا من المؤمنين فقد تخلّفوا ولم يستأذنوا في التخلّف ، لأنّهم كانوا على نية اللحاق بالجيش بعد خروجه .
والاستئذان : طلب الإذن ، أي في إباحة عمل وترك ضدّه ، لأنّ شأن الإباحة أن تقتضي التخيير بين أحد أمرين متضادّين .
والاستئذان يُعدّى ب ( في ). فقوله : { أن يجاهدوا } في محلّ جرّ ب ( في ) المحذوفة ، وحذف الجارّ مع { أنْ } مطّرد شائع .
ولمّا كان الاستئذان يستلزم شيئين متضادّين ، كما قلنا ، جازَ أن يقال : استأذنتُ في كذا واستأذنت في ترك كذا . وإنّما يُذكر غالباً مع فعل الاستئذان الأمر الذي يَرغَب المستأذنُ الإذنَ فيه دون ضدّه وإن كان ذكر كليهما صحيحاً .
ولمّا كانَ شأن المؤمنين الرغبة في الجهاد كان المذكور مع استئذان المؤمنين ، في الآية أن يجاهدوا دون أن لا يجاهدوا ، إذ لا يليق بالمؤمنين الاستئذان في ترك الجهاد ، فإذا انتفى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا ثبت أنّهم يجاهدون دون استئذان ، وهذا من لطائف بلاغة هذه الآية التي لم يعرّج عليها المفسّرون وتكلّفوا في إقامة نظم الآية .
وجملة { والله عليم بالمتقين } معترضة لفائدة التنبيه على أنّ الله مطّلع على أسرار المؤمنين إذ هم المراد بالمتّقين كما تقدّم في قوله في سورة البقرة ( 2 ، 3 ) { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب . }