(إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ), فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة, وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين، فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت إلا في هذا الموضع؛ لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام, كمثل قول العرب: ما أشتكي إلا خيرا، فلم يجعل قوله: إلا خيرا على الشكوى, ولكنه علم أنه إذا قال: ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا, كأنه قال: ما أذكر إلا خيرا.
وقال بعض نحويي الكوفة يقول القائل: كيف صير خائفا من ظلم, ثم بدّل حسنا بعد سوء, وهو مغفور له؟ فأقول لك: في هذه الآية وجهان: أحدهما أن يقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة, ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو, فهذا وجه. والآخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة, لأن المعنى: لا يخاف لديّ المرسلون, إنما الخوف على من سواهم, ثم استثنى فقال: (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا ) يقول: كان مشركا, فتاب من الشرك, وعمل حسنا, فذلك مغفور له, وليس يخاف. قال: وقد قال بعض النحويين: إن إلا في اللغة بمنـزلة الواو, وإنما معنى هذه الآية: لا يخاف لديّ المرسلون, ولا من ظلم ثم بدّل حسنا, قال: وجعلوا مثله كقول الله: لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال: ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا, لأني لا أجيز: قام الناس إلا عبد الله, وعبد الله قائم، إنما معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا. وقد أراه جائزا أن يقول: لي عليك ألف سوى ألف آخر; فإن وضعت إلا في هذا الموضع صلحت, وكانت إلا في تأويل ما قالوا, فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو, وليست بها قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ هو في المعنى. والذي شاء ربك من الزيادة, فلا تجعل إلا بمنـزلة الواو, ولكن بمنـزلة سوى; فإذا كانت " سوى " في موضع " إلا " صلحت بمعنى الواو, لأنك تقول: عندي مال كثير سوى هذا: أي وهذا عندي, كأنك قلت: عندي مال كثير وهذا أيضا عندي, وهو في سوى أبعد منه في إلا لأنك تقول: عندي سوى هذا, ولا تقول: عندي إلا هذا.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ ) عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية, بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما, وهو أن قوله: (إِلا مَنْ ظُلِمَ ) استثناء صحيح من قوله ( لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ ) منهم فأتى ذنبا, فإنه خائف لديه من عقوبته، وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك, وهو قوله قال: إني إنما أخفتك لقتلك النفس.
فإن قال قائل فما وجه قيله إن كان قوله (إِلا مَنْ ظُلِمَ ) استثناء صحيحا, وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين, وكيف يكون خائفا من كان قد وُعد الغفران والرحمة؟ قيل: إن قوله: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) كلام آخر بعد الأوّل, وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم, ومن لم يظلم عند قوله (إِلا مَنْ ظُلِمَ ) ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل, وسائر الناس غيرهم، وقيل: فمن ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم.
فإن قال قائل: فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت ب (ثُمَّ) إن لم يكن عطفا على قوله: ( ظَلَمَ ) ؟ قيل: على متروك استغني بدلالة قوله (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) عليه عن إظهاره, إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره, وهو فمن ظلم من الخلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية, فقد قالوا على مذهب العربية, غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل. وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه من التأويل, ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل.
وقوله: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) يقول تعالى ذكره: فمن أتى ظلما من خلق الله, وركب مأثما, ثم بدل حسنا, يقول: ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم,(فَإِنِّي غَفُورٌ ) يقول: فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه, وترك عقوبته عليه ( رَحِيمٌ ) به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا ورقاء جميعا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: (إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ) ثم تاب من بعد إساءته (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ )