عطف على جملة : { الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } [ البقرة : 146 ] ، فهو من تمام الاعتراض ، أو عطف على جملة : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [ البقرة : 145 ] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجُمل ، ذلك أنه بعد أن لُقِّن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يجيب به عن قولهم { مَا وَلاَّهُم عن قبلتهم } ، وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأَيْأَسَهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة ، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية ، طَيَّاً لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة ، كما يقال في المخاطبات «دَعْ هذا» أو «عَدِّ عن هذا» ، والمعنى أن لكل فريق اتجاهاً من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق . وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق . وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم ، وفي معناه قوله تعالى : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] الآية ، ولذلك أعقبه بقوله : { فاستبقوا الخيرات } ، فقوله : { أين ما تكونوا } في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات . فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخُطب بذكر مقدِّمة ومقْصَد وبياننٍ لَه وتَعْلِيل وتَذْيِيل .
و ( كل ) اسم دال على الإحاطة والشمول ، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه .
وحذف ما أضيف إليه ( كل ) هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف ( أُمَّة ) لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة ، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى : { أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله } [ البقرة : 285 ] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى : { ولكل جعلنا مولى } [ النساء : 33 ] في سورة النساء ، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة ، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة ، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى : { كل له قانتون } [ البقرة : 116 ] .
والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فِعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح ، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر .
وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيهاً بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس ، ولفظ { وجهة } في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن ، وقريب منه قوله :
{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] .
وضمير { هو } عائد للمضاف إليه ( كُل ) المحذوف .
والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى : { ما ولاهم عن قبلتهم } [ البقرة : 142 ] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها .
وقراءة الجمهور «موليها» بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر «هو مُوَلاَّها» بألف بعد اللام بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره ، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة ، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات ، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم ، فإنكم على الخيرات ، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة ، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها . ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها .
وقوله : { فاستبقوا الخيرات } تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد . فالمنافسة تكون في مصادفة الحق .
والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلاّ أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى : { واستبقا الباب } [ يوسف : 25 ] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا . فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات . والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هاذم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } [ آل عمران : 133 ] ، { والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم } [ الواقعة : 10 12 ] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } [ الحديد : 10 ] وقال موسى : { وعجلت إليك رب لترضى } [ طه : 84 ] .
وقوله : { أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً } جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله ، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعاً خيرهم وشرهم و ( كان ) تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء .
والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة . قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان
: ... أَتَاكَ بيَ اللَّهُ الذي نَوَّر الهُدَى
ونُورٌ وإِسْلاَم علَيك دَليل ... أراد سخرني إليك ، وفي الحديث :
« اللهم اهْدِ دَوْساً وأْت بها » أي اهدها وقربها للإِسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى : { إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله } [ لقمان : 16 ] .
وتجيء أقوال في تفطسير { أينما تكونوا } على حسب الأقوال في تفسير { ولكلِّ وجهة } بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم ، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يُذَكِّركم بالله فاسعوا في مرضاته بالخيرات يَعْلم الله ذلك من كل مكان ، أو هو ترهيب أي في أيَّة جهة يأتتِ الله بكم فيثيت ويعاقِب ، أوْ هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت ، إلى غير ذلك من الوجوه .
وقوله : { إن الله على كل شيء قدير } تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة .