عطف : ولنبلونكم وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الاموال والانفس والثمرات } على قوله : { استعينوا بالصبر والصلوات } [ البقرة : 153 ] عَطْفَ المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل ، ولك أن تجعل قوله : { ونبلونكم } عطفاً على قوله : { ولأُتم نعمتي عليكم } [ البقرة : 150 ] الآيات ليُعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها ، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء ، ويزدادون يقيناً بأن اتِّباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حُظوظ في الدنيا ، وينجر لهم من ذلك ثواب ، ولذلك جاء بعده { وبشر الصابرين } وجعل قوله : { يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوات } [ البقرة : 153 ] الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء ، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبراً بقوله : { وبشر الصابرين } .
وجيءَ بكلمة ( شيءٍ ) تهويناً للخبر المفجع ، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة ، كما في قوله : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } [ النحل : 112 ] ولذلك جاء هنا بكلمة ( شيءٍ ) وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن ، وهو أن استعار لها اللباس الملازم لللاَّبس ، لأن كلمة ( شيء ) من أسماء الأجناس العالية العامَّة ، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة ( شيء ) قبل اسم ذلك الجنس إلاّ لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غَناءَها ، فما ذكر كلمة شيء إلاّ والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع ، فبقي له الدلالة على التحقير وهذا كقول السّريّ مخاطباً لأبي إسحاق الصابي :
فشيئاً من دَممِ العُنْقُو ... دِ أَجعله مكان دَمي ( )
فقول الله تعالى : { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع } عُدول عن أن يقول بخوف وجوع أما لو ذكر لفظ شيء مع غير اسممِ جنسسٍ كما إذا أُتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذٍ يدل على مطلق التنويع نحو قول قُحَيط العِجْلي :
فلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللعْنَ فيها ... ومَنْعُكها بشيء يستطاع
فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمَعْنًى من المعاني من غلبة أو معازَّةٍ أو فداء أو نحو ذلك اه .
وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفاً لدلالة المقام ، كقوله تعالى : { فمن عفى له من أخيه شيء } [ البقرة : 178 ] فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر ، وقول عمر بن أبي ربيعة :
ومِنْ ماليءٍ عينيه من شيءٍ غيرهِ ... إذَا راح نحو الجمرَةِ البيضُ كالدمى
أي من محاسن امرأة غير امرأته .
وقول أبي حَيَّة النُّمَيْري :
إذا ما تقاضَى المرءَ يومٌ وليلةٌ ... تَقاضَاه شيءٌ لا يَمَلُّ التقاضيا
أي شيء من الزمان ، ومن ذلك قوله تعالى : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً } [ آل عمران : 10 ] أي من الغَنَاء .
وكَأَنَّ مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة شيء هو الذي دعَا الشيخَ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت ابن أبي ربيعة وبيتتِ أبي حية النميري ، وبِقلَّتها وتضاؤُلها في قول أبي الطيب :
لو الفَلكُ الدوَّار أبْغَضْتَ سَعْيَهُ ... لعَوَّقَهُ شيءٌ عن الدَّوَرَانِ
لأنها في بيت أبي الطيب لا يتعلق بها معنى التقليل كما هو ظاهر ولا التنويع لقلة جدوى التنويع هنا إذ لا يجهل أحد أن معوِّقَ الفلك لا بد أن يكون شيئاً .
والمراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة ، كما وقع في يوم الأحزاب إذ جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات ، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو ، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة :
شعب العلافيات بين فروجهم ... والمحصنات عوازب الأطهار
وكما قال الأعشى يمدح هوذة بن علي صاحب اليمامة بكثرة غزواته :
أفى كل عام أنت حاشم غزوة ... تَشُد لأقصاها عزيم عزائكا
مورِّثةٍ مالاً وفي المَجْدِ رِفْعَةً ... لما ضاع فيها من قُروء نسائك
وكذلك نقص الأنفس بالاستشهاد في سبيل الله ، وما يصيبهم في خلال ذلك وفيما بعده من مصائب ترجع إلى هاته الأمور .
والكلام على الأموال يأتي عند قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] في هذه السورة وعند قوله : { إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم } [ آل عمران : 10 ] في سورة آل عمران .
وجملة : { وبشر الصابرين } معطوفة على { ولنبلونكم } ، والخطاب للرسول عليه السلام بمناسبة أنه ممن شمله قوله : { ولنبلونكم } وهو عطف إنشاء على خبر ولا ضير فيه عند من تحقق أساليب العرب ورأى في كلامهم كثرة عطف الخبر على الإنشاء وعكسه .
وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريماً لشأنه ، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته ، فلذلك كان من لطائف القرآن إسنادُ البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول ، وإسنادُ البِشارة بالخير الآتي من قِبَل الله إلى الرسول .
والكلام على الصبر وفضائله تقدم في قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلوات } [ البقرة : 45 ] .