وقوله : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } جاء باسم الإشارة لتمييزهم للسامعين أكمل تمييز ، لأنّهم قد حصل من ذكر صفاتهم مَا جعلهم كالمشاهدين ، وأراد بما في قلوبهم الكفر الذي أبطنوه وأمر رسوله بالإعراض عنهم .
وحقيقة الإعراض عدم الالتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه ، مشتقّ من العُرْض بضم العين وهوَ الجانب ، فلعلّ أصل الهمزة في فعل أعرض للدخول في الشيء ، أي دخل في عرض المكان ، أو الهمزة للصيرورة ، أي صار ذا عرض ، أي جانب ، أي أظهر جانبه لغيره ، ولم يُظهر له وجهَه ، ثم استعمل استعمالاً شائعاً في التَّرك والإمساك عن المخالطة والمحادثة ، لأنّه يتضمّن الإعراض غالباً ، يقال : أعرض عنه كما يقال : صدّ عنه ، كقوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتّى يخوضوا في حديث غيره } [ الأنعام : 68 ] ولذلك كثر هذا اللفظ في أشعار المتيَّمين رديفاً للصدود ، وهذا أقرب المعاني إلى المعنى الحقيقي ، فهو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم ، وقد شاع ذلك في الكلام ثمّ أطلق على العفو وعدم المؤاخذة بتشبيه حالة من يعفو بحالة من لا يلتفت إلى الشيء فيوليه عُرض وجهه ، كما استعمل صَفَح في هذا المعنى مشتقّاً من صفحة الوجه ، أي جانبه ، وهو أبعد عن المعنى الحقيقي من الأوّل لأنّه مبني على التشبيه .
والوعظ : الأمر بفعل الخير وترك الشرّ بطريقة فيها تخويف وترقيق يحملان على الامتثال ، والاسم منه الموعظة ، وتقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { إنّ الله نعمّا يعظكم به } [ النساء : 58 ] . فهذا الإعراض إعراض صفح أو إعراض عدم الحزن من صدودهم عنك ، أي لا تهتمّ بصدودهم ، فإنّ الله مجازيهم ، بدليل قوله : { وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } ، وذلك إبلاغ لهم في المعذرة ، ورجاء لصلاح حالهم ، . شأن الناصح الساعي بكلّ وسيلة إلى الإرشاد والهدى .
والبليغ فعيل بمعنى بالغ بلوغاً شديداً بقوّة ، أي : بالغاً إلى نفوسهم متغلغلاً فيها . وقوله : { في أنفسهم } يجوز أن يتعلّق بقوله بليغاً ، وإنّما قدّم المجرور للاهتمام بإصلاح أنفسهم مع الرعاية على الفاصلة ، ويجوز أن يتعلق بفعل { قل لهم } ، أي قل لهم قولاً في شأن أنفسهم ، فظرفية ( في ) ظرفية مجازية ، شبّهت أنفسهم بظرف للقول .