.ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) { ثم } للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، ولولا إرادة التراخي الرتبي لكانت الجملة معطوفة بالواو . وهذا التراخي يفيد أن مضمون الجملة المعطوفة بحرف { ثم } أهم من مضمون الجملة المعطوففِ عليها أهمية الغرض على المقدمة والنتيجةِ على الدليل . وفي هذا التراخي تنويه بهذا الجعل وإشارة إلى أنه أفضل من إيتاء بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءة والبّيناتتِ من الأمر ، فنبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وكتابُه وحُكمه وبَيناته أفضل وأهدى مما أوتيه بنو إسرائيل من مثل ذلك .
و { على } للاستعلاء المجازي ، أي التمكن والثبات على حد قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] .
وتنوين { شريعة } للتعظيم بقرينة حرف التراخي الرتبي .
والشريعة : الدين والملة المتَّبعة ، مشتقة من الشرع وهو : جَعل طريق للسير ، وسمي النهج شَرعاً تسميةً بالمصدر . وسُميت شَريعة الماء الذي يرده الناس شريعةً لذلك ، قال الراغب : استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء قلتُ : ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير .
و { الأمر } : الشأن ، وهو شأن الدين وهو شأن من شؤون الله تعالى ، قال تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] ، فتكون { مِن } تبعيضية وليست كالتي في قوله آنفاً { وآتيناهم بينات من الأمر } [ الجاثية : 17 ] لأن إضافة { شريعة } إلى { الأمر } تمنع من ذلك .
وقد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى ، وأنها شريعة عظيمة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدَأب في بيانها والدعوة إليها . ولذلك فرع عليه أمره باتباعها بقوله : { فاتّبعها } أي دُم على اتباعها ، فالأمر لطلب الدوام مثل { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله } [ النساء : 136 ] .
وبين قوله : { فاتبعها } وقوله : { ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } محسِّن المطابقة بين الأمر بالاتباع والنهي عن اتباع آخر . و { الذين لا يعلمون } هم المشركون وأهواؤهم دين الشرك قال تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهاه هواه } [ الجاثية : 23 ] .
والأهواء : جمع هوى ، وهو المحبة والميل . والمعنى : أن دينهم أعمال أحبوها لم يأمر الله بها ولا اقتضتها البراهين .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه : إسماع المشركين لئلا يطمعوا بمصانعة الرسول صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يرون منه الإغضاء عن هفواتهم وأذاهم وحِينَ يسمعون في القرآن بالصفح عنهم كما في الآية السالفة { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] . وفيه أيضاً تعريض للمسلمين بأن يحذروا من أهواء الذين لا يعلمون . وعن ابن عباس «أنها نزلت لمّا دعته قريش إلى دين آبائه» قال البغوي : كانوا يقولون له : ارجع إلى دين آبائك فإنهم أفضل منك .