وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47(
كان مقتضى الظاهر من التنظير أن يقدم قوله : { وأنه هو أغنى وأقنى } [ النجم : 48 ] على قوله : { وأن عليه النشأة الأخرى } لما في قوله : { وأنه هو أغنى وأقنى } من الامتنان وإظهار الاقتدار المناسبين لقوله : { وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين } [ النجم : 43 45 ] الخ . إذ ينتقل من نعمة الخلق إلى نعمة الرزق كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم { الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين } [ الشعراء : 78 ، 79 ] وقوله تعالى : { الله الذي خلقكم ثم رزقكم } [ الروم : 40 ] ولكن عدل عن ذلك على طريقة تشبه الاعتراض ليُقرن بين البيانين ذكر قدرته على النشأتين .
ومما يشابه هذا ما قاله الواحدي في شرح قول المتنبي في سيف الدولة :
وقفتَ وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جن الردى وهو نائم
تَمُرُّ بك الأبطال كلْمَى هَزِيمةً ... ووجهُكَ وَضاء وَثَغرك باسم
أنه لما أنشد هذين البيتين أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عَجزي البيتين على صدريْهما وقال : ينبغي أن تطبق عجز الأول على الثاني وعجز الثاني على الأول ثم قال له : وأنت في هذا مثلُ امرىء القيس في قوله :
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتَبطَّن كاعبا ذات خَلخال
ولم أسبإِ الزق الرويّ ولم أقل ... لخيليَ كُرّي كَرَّة بعد إجفال
ووجه الكلام في البيتين على ما قاله أهل العلم بالشعر أن يكون عجُز الأول على الثاني والثاني على الأول ( أي مع نقل كلمة ( لَلذة ( من صدر الأول إلى الثاني ، وكلمة ( ولم أقل ( من صدر الثاني إلى الأول ليستقيم الكلام ( فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكرّ وسَبْأُ الخمر مع تبطّننِ الكاعب فقال أبو الطيب : «أدام الله عز مولانا إن صح أن الذي استدرك هذا على امرىء القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ أمرؤ القيس وأخطأتُ أنا ، ومولانا يعرف أن البزَّاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله ، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد وقَرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء ، وإنما لما ذكرتُ الموت في أول البيت اتبعتُه بذكر الردى ليجانسه ، ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً وعينهُ من أن تكون باكية قلت : ووجهك وضاءُ ، لأجمع بين الأضداد في المعنى» اه .
ولو أن أبا الطيب شعر بهذه الآية لذكرها لسيف الدولة فكانت له أقوى حجة من تأويله شعر امرىء القيس .
وفي جملة { وأن عليه النشأة } تحقيق لفعله إياها شَبهاً بالحق الواجب على المحقوق به بحيث لا يتخلف فكأنه حق واجب لأن الله وعد بحصول بما اقتضته الحكمة الإِلهية لظهور أن الله لا يكرهه شيء ، فالمعنى : أن الله أراد النشأة الأخرى كقوله تعالى :
{ كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة } [ الأنعام : 12 ] .
و { النشأة } : المرة من الإِنشاء ، أي الإِيجاد والخلق .
و { الأخرى } : مؤنث الأخير ، أي النشأة التي لا نشأة بعدها ، وهي مقابل النشأة الأولى التي يتضمنها قوله تعالى : { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } [ النجم : 45 ] . وهذه المقابلة هي مناسبة ذكر هذه النشأة الأخرى .
وقرأ الجمهور { النشأة } بوزن الفعلة وهو اسم مصدر أَنشأ ، وليس مصدراً ، إذ ليس نشأ المجرد بمتعد وإنما يقال : أنشأ .
وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { النشاءة } بألف بعد الشين المفتوحة بوزن الفَعالة وهو من أوزان المصادر لكنه مقيس في مصدر الفعل المضموم العين في الماضي نحو الجزالة والفصاحة . ولذلك فالنشاءة بالمد مصدر سماعي مثل الكآبة . ولعل مدّتَها من قبيل الإشباع مثل قول عنترة :
ينْبَاع من ذفرَى غَضوب جَسْرة ... أي : ينبع .
وتقديم الخبر على اسم { أن } للاهتمام بالتحقيق الذي أفادته ( على ( تنبيها على زيادة تحقيقه بعد أن حقق بما في ( أن ( من التوكيد .