انتقال إلى ذكر بهتان آخر من حجاج هؤلاء المشركين ، لم تزل آيات هذه السورة يتخللها أخبار كفرهم من قوله : { ويقطع دابر الكافرين } [ الأنفال : 7 ] وقوله { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } [ الأنفال : 13 ] وقوله { فلَمْ تقتلوهم ولكن الله قتلهم } [ الأنفال : 17 ] وقوله { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } [ الأنفال : 21 ] ثم بقوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا } [ الأنفال : 30 ].
وهذه الجمل عطف على جملة : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } [ الأنفال : 23 ].
وهذا القول مقالة المتصدين للطعن على الرسول صلى الله عليه وسلم ومحاجته ، والتشغيب عليه : منهم النضر بن الحارث ، وطُعمية بن عدي ، وعقبة بن أبي مُعَيْط .
ومعنى { قد سمعنا } : قد فهمنا ما تحتوي عليه ، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتَبيّنوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق ، فلذلك قال الله تعالى عنهم { كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } [ الأنفال : 21 ] أي لا يفقهون ما سمعوا .
ومن عجيب بهتانهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدّاهم بمعارضة سورة من القرآن ، فعجزوا عن ذلك وأفحموا ، ثم اعتذروا بأن ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك قيل : قائِل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، كان رجلاً من مردة قريش ومن المستهزئين ، وكان كثيرَ الأسفار إلى الحِيره وإلى أطراف بلاد العجم في تجارته ، فكان يلقى بالحِيرة ناساً من العِبَاد ( بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى ) فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقَى من العرب من ينقل أسطورة حروب ( رُسْتُم ) و ( أسْفندياذ ) من مُلوك الفرس في قصصهم الخُرافي ، وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية ، فيما أحسب ، إلاّ ما وقع في «الكشاف» أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر ( رُستم ) و ( اسفندياذَ ) ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار مكتوباً بالعربية كتبها القصاصون من أهل الحِيرة والأنبار تذكرة لأنفسهم ، وإنما هي أخبار لا حكمة فيها ولا موعظة ، وقد أطال فيها الفردوسي في كتاب «الشاهنامه» تطويلاً مُملاً على عادة أهل القصص ، وقال الفخر : اشترى النضر من الحِيرة أحاديث كليلة ودمنة ، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين ، فإسناد قول النضر بن الحارث إلى جماعة المشركين : من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويَحكونه ويُحاكونه ، ويحسبون فيه معذرة لهم عن العجز الذي تلبسوا به في معارضة القرآن ، وأنه نفّس عليهم بهذه الأغلوطة ، فإذا كان الذي ابتكره هو النضر بن الحارث فليس يمتنع أن تصدر أمثال هذا القول من أمثاله وأتباعه ، فمن ضمنهم مجلسه الذي جاء فيه بهذه النزاقة .
وقولهم : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } إيهام بأنهم ترفعوا عن معارضته ، وأنهم لو شاءوا لنقلوا من أساطير الأولين إلى العربية ما يوازي قصص القرآن وهذه وقاحة ، وإلاّ فما منعهم أن يشاءوا معارضة من تحداهم وقرعهم بالعجز بقوله : { فإنْ لم تفعلوا ولنْ تفعلوا } [ البقرة : 24 ] مع تحيزهم وتآمرهم في إيجاد معذرة يعتذرون بها عن القرآن وإعجازه إياهم وتحديه لهم ، وما قاله الوليد بن المغيرة في أمر القرآن .
و«الأساطير» جمع أسطورة بضم الهمزة وهي القصة ، وتقدم عند قوله تعالى : { حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلاّ أساطير الأولين } في سورة [ الأنعام : 25 ].
والمخالفة بين شرط { لو } وجوابها إذ جعل شرطها مضارعاً والجزاء ماضياً جرى على الاستعمال في ( لو ) غالباً ، لأنها موضوعة للماضي فلزم أن يكون أحد جزَأيْ جملتها ماضياً ، أو كلاهما . فإذا أريد التفنن خولف بينهما ، فالتقدير : لو شئنا لقلنا ، ولا يبعد عندي في مثل هذا التركيب أن يكون احتباكاً قائماً مقام شرطين وجزاءين فإحدى الجملتين مستقبلة والأخرى ماضية ، فالتقدير لو نشاء أن نقول نقولُ ، ولو شئنا القول في الماضي لقلنا فيه ، فذلك أوعب للأزمان ، ويكون هذا هو الفرق بين قوله : { ولَوْ شئنا لآتينا كل نفسسٍ هداها } [ السجدة : 13 ] وقوله : { أنْ لَو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } [ الرعد : 31 ] فهم لما قالوا : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } ادعوا القدرة على قول مثله في الماضي وفي المستقبل إغراقاً في النفَاجة والوقاحة .