الضمير في { يريدوا } عائِد إلى من في أيديكم من الأسرى . وهذا كلام خاطب به اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم اطمئناناً لنفسه ، وليبلغ مضمونَه إلى الأسرى ، ليعلموا أنّهم لا يغلِبون الله ورسوله . وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً } [ الأنفال : 69 ] ، فكل ذلك الإذنُ والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم ، إنْ خانهم الأسرى بعدَ رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال ، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرةً أخرى ، كما أمكنهم منهم في هذه المرة ، أي : أن يَنووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتَك ، وإنّما وعدوا بذلك لينجَوا من القتل والرقّ ، فلا يضرّكم ذلك ، لأنّ الله ينصركم عليهم ثانيَ مرة . والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة .
فالعَهد ، الذي أعطَوْه ، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين . وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه .
وخيانتهم الله ، التي ذُكرت في الآية ، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة ، وما من نفس إلاّ وهي تشعر به ، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم .
وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله : { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما } [ الأعراف : 189 ، 190 ].
ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبيء صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة ، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا .
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله : { فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم }. وتقديره : فلا تضرّك خيانتهم ، أو لا تهتمّ بها ، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل .
قوله : { فأمكن منهم } سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب ، وبيان اشتقاقه ، وألَمَّ به بعضهم إلماماً خفيفاً؛ بأن فسروا ( أمكنَ ) بأقدَرَ ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر . ووقع في «الأساس» «أمكنني الأمرُ معناه أمكنني من نفسه» وفي «المصباح» «مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة» .
والذي أفهَمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل ، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكاناً أي مقراً ، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مَجالاً للكائن فيه .
و«من» التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم : لستُ منك ولستَ منّي . فقوله تعالى : { فأمكن منهم } حذف مفعوله لدلالة السياق عليه ، أي أمكنك منهم يوم بدر ، أي لم ينفلتوا منك .
والمعنى : أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم .
{ والله عليم حكيم } تذييل ، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم .