الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله . وفي هذا التفريع وجهان :
أحدهما : الذي جرى عليه كلام المفسّرين أنّه تفريع على قوله : { لولا كتاب من الله سبق } [ الأنفال : 68 ] إلخ . . . أي لولا ما سبق من حلّ الغنائم لكم لمسّكم عذاب عظيم ، وإذ قد سبق الحلّ فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء . وقد روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } [ الأنفال : 67 ] الآية ، أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء ، فنزل قوله تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيبا } وعلى هذا الوجه قد سمّي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي؛ لأنّ الغنيمة في اصطلاح الشرع هي ما افتكّه المسلمون من مال العدوّ بالإيجاف عليهم .
والوجه الثاني : يظهر لي أنّ التفريع ناشىء على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل ، وأنّ المعنى : فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض . وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي .
ولمّا تضمّن قوله : { لولا كتاب من الله سبق } [ الأنفال : 68 ] امتناناً عليهم بأنّه صرف عنهم بأس العدوّ ، فرّع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم ، ويتوسّعوا به في نفقاتهم ، دون نكد ولا غصّة ، فإنّهم استغنوا به مع الأمن من ضرّ العدوّ بفضل الله . فتلك نعمة لم يشُبها أذى .
وعبّر عن الانتفاع الهنيء بالأكل : لأنّ الأكل أقوى كيفيّات الانتفاع بالشيء ، فإنّ الآكِل ينعم بلذاذة المأكول وبدَفْع ألم الجوع عن نفسه ودفع الألم لذاذة ويكسبه الأكلُ قوة وصحّة والصحة مع القوّة لذاذة أيضاً .
والأمر في { كلوا } مستعمل في المنّة ولا يحمل على الإباحة هنا : لأنّ إباحة المغانم مقرّرة من قبله يوم بدر ، وليكون قوله : { حلالاً } حالاً مؤسسّة لا مؤكّدة لمعنى الإباحة .
و { غنمتم } بمعنى فاديتم لأنّ الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم .
والطيب : النفيس في نوعه ، أي حلالاً من خير الحلال .
وذُيّل ذلك بالأمر بالتقوى : لأنّ التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم .
وجملة : { إن الله غفور رحيم } تعليل للأمر بالتقوى ، وتنبيه على أنّ التقوى شكر على النعمة ، فحرف التأكيد للاهتمام ، وهو مغن غَناء فاء التفريع ، كقول بشار
: ... إنّ ذاك النجاح في التبكير
وقد تقدّم ذكره غير مرة .
وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيّداً لرأي عمر بن الخطاب . فقد روى مسلمٌ عن عمر ، قال : «وافقتُ ربّي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر» .