وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإِهمال قُيّد فعل { ينظرون } بالكيفيات المعدودة في قوله : { كيف خلقت } ، { كيف رفعت } ، { كيف نصبت } ، { كيف سطحت } أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خَلقها .
وجملة : { كيف خلقت } بدل اشتمال من الإِبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل { ينظرون } لاَ حرف الجر ، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل ، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكلٌّ على ما يقتضيه معناه وموقعه ، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه .
والمعنى والتقديرُ : أفلا ينظرون إلى الإِبللِ هيئةِ خَلْقِها .
وقد عُدّت أشياءُ أربعة هي من النَّاظرين عن كَثب لا تغيب عن أنظارهم ، وعُطف بعضها على بعض ، فكان اشتراكها في مرْآهم جهةً جامعة بينها بالنسبة إليهم ، فإنهم المقصودون بهذا الإِنكار والتوبيخ ، فالذي حسَّن اقتران الإِبل مع السماء والجبال والأرض في الذكر هنا ، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع .
فالإبل أموالهم ورواحلهم ، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمّالة أثقالهم ، وقد خلقها الله خلقاً عجيباً بقوة قوائمها ويُسْر بُروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها ، وجَعَل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك ، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يَهلك فيما دونه غيرها من الحيوان .
وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طِوالهم عن وصف الرواحل ومزاياها . وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير .
و { الإِبل } : اسم جمع للبُعران لا واحد له من لفظه ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } في سورة الأنعام ( 146 ) .
وعن المبرد أنه فسر الإِبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوَّله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإِبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه ، أي هو على نحو قول عنترة
: ... جادت عليه كل بِكر حرّة
فتركن كل قرارة كالدرهم ... ونُقل بهم إلى التدبر في عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم ، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق ، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء ، قال زيادة الحارثي ( على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله ، بنو ماء السماء
) : ... ونَحن بنو ماء السماء فلا نَرى
لأنفسنا من دون مملكة قَصر ... وفي كلام أبي هريرة وقد ذكر قصة هَاجَر فقال أبو هريرة في آخرها : إنها لأمّكم يا بني ماء السماء ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير .
وأتبع ذكر السماء بذكر الجبال وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جَبَلَي أجإ وسلمى لطَي . وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة .
والنصْب : الرفع أي كيف رُفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل .
وثم نُزِل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم ، وقد سَطَحها الله ، أي خلقها ممهدة للمشي والجلوس والاضطجاع . ومعنى سُطحت } : سُويت يقال : سَطَح الشيء إذا سوّاه ومنه سَطْح الدار .
والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية .
وبُنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك .