فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) والتيسير : جعل شيء يسيرَ الحصول ، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيراً ، أي غير شديد ، والمجرور باللام بعده هو الذي يسهَّل الشيءُ الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر ، كما في قوله تعالى : { ويسر لي أمري } [ طه : 26 ] وقوله : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } [ القمر : 17 ] .
واليسرى في قوله : { لليسرى } هي ما لا مشقة فيه ، وتأنيثها : إما بتأويل الحالة ، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة ، وهي حالة النعيم ، أو على تأويلها بالمكانة . وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد . ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه ، أي الملائم .
والعسرى : إما الحالة وهي حالة العسر والشدة ، أي العذاب ، وإما مكانته وهي جهنّم ، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى : { فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير } [ المدثر : 9 ، 10 ] ، فمعنى : «نيسره» ندرّجُهُ في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية ، فالأعمال اليسرى هي الصالحة ، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها ، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال .
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مراداً منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى : { قال سوف أستغفر لكم ربي } [ يوسف : 98 ] .
وحرف ( ال ) في «اليسرى» وفي «العسرى» لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني .
وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر إذ جُعل ضمير الغيبة في «نيسره لليسرى» العائدُ إلى { من أعطى واتقى } هو الميسرَ ، وجعل ضمير الغيبة في «نيسره للعسرى» العائدُ إلى { من بخل واستغنى } هو الميسرَ ، أي الذي صار الفعل صعبُ الحصول حاصلاً له ، وإذ وقع المجروران باللام «اليسرى» و «العسرى» ، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بَخل ، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين :
الأولى : إيفاء فعل «نيسر» على حقيقته وجَعْلُ الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام : فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب ، فيصار إلى أن المتقضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسَّر ميسراً له والميسر له ميسراً على نحو ما وجهوا به قول العرب : عرضت الناقة على الحوض .
والثانية : أن يكون التيسير مستعملاً مجازاً مرسلاً في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له ، وتكون اللام من قوله : { لليسرى } و { للعسرى } لام التعليل ، أي نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى ، فالمراد باليسرى الجنة وبالعُسرى جهنم ، على أن يكون الوصفان صارا علماً بالغلبة على الجنة وعلى النار ، والتهيئةُ لا تكون لذات الجنة وذاتتِ النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخُول اليسرى ولدخول العسرى ، أي سنعجّل به ذلك .
والمعنى : سنَجْعل دخول هذه الجنةَ سريعاً ودخولَ الآخِر النارَ سريعاً ، بشبه الميسَّر من صعوبة لأن شأن الصعب الإِبطاءُ وشأن السهل السرعةُ ، ومنه قوله تعالى : { ذلك حشر علينا يسير } [ ق : 44 ] ، أي سريع عاجل . ويكون على هذا الوجه قوله : { فسنيسره للعسرى } مشاكلةٌ بُنِيت على استعارة تهكمية قرينتها قولُه : «العسرى» . والذي يدعو إلى هذا أن فعل «نيسر» نصبَ ضمير { من أعطى واتقى وصدَّق } ، وضمير { من بَخل واستغنى وكذَّب ، فهو تيسيرٌ ناشىء عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى اتَّقى } أو معنى { استغنى } ، فالأعمال سابقة لا محالة . والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها ، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها .
ويجوز أن يكون معنى الآية : أن يُجعل التيسير على حقيقتِهِ ويجعل اليسرى وصفاً أي الحالة اليسرى ، والعسرى أي الحالة غير اليسرى .
وليس في التركيب قلب ، والتيسير بمعنى الدوام على العمل ، ففي «صحيح البخاري» عن علي قال : " كنا مع رسول الله في بقيع الغَرقد في جنازة فقال : ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مَقْعَده من الجنة ومَقْعَدَه من النار ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكِلُ؟ فقال : اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له . أما أهل السعادة فَيُيَسَّرُونَ لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، ثم قرأ : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى