القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وما كان قولهم "، وما كان قول الرِّبِّيين - و " الهاء والميم " من ذكر أسماء الربيين -" إلا أن قالوا "، يعني: ما كان لهم قولٌ سوى هذا القول، إذ قتل نبيهم = وقوله: " ربنا اغفر لنا ذنوبنا "، يقول: لم يعتصموا، إذ قتل نبيهم، إلا بالصبر على ما أصابهم، ومجاهدة عدوهم، وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوهم. ومعنى الكلام: وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا. (76) .
* * *
وأما " الإسراف "، فإنه الإفراط في الشيء: يقال منه: " أسرف فلانٌ في هذا الأمر "، إذا تجاوز مقداره فأفرط.
* * *
ومعناه هاهنا: اغفر لنا ذنوبنا: الصغارَ منها، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبائر. كما:-
7987- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله: " وإسرافنا في أمرنا "، قال: خطايانا.
7988- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وإسرافنا في أمرنا "، خطايانا وظلمَنا أنفسنا.
7989- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: " وإسرافنا في أمرنا "، يعني: الخطايا الكِبار.
7990- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قال، الكبائر.
7991- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: " وإسرافنا في أمرنا "، قال: خطايانا.
7992- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " وإسرافنا في أمرنا "، يقول: خطايانا.
* * *
وأما قوله: " وثبت أقدامنا "، فإنه يقول: اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوّك وقتالهم، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفرَّ منهم ولا يثبتُ قدمه في مكان واحد لحربهم =" وانصرنا على القوم الكافرين "، يقول: وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك. (77) .
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل عبادَه الذين فرُّوا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم، وتأديبٌ لهم. يقول: الله عز وجل: هلا فعلتم إذ قيل لكم: " قُتل نبيكم " - كما فعل هؤلاء الرِّبِّيون، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء إذ قتلت أنبياؤهم. فصبرتم لعدوكم صبرَهم، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم، كما لم يضعف هؤلاء الرِّبِّيون ولم يستكينوا لعدوهم، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا، فينصركم الله عليهم كما نصروا، فإن الله يحب من صَبر لأمره وعلى جهاد عدوه، فيعطيه النصر والظفر على عدوه؟. كما:-
7993- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: " وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين "، أي: فقولوا كما قالوا، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم، واستغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم، ولا ترتدُّوا على أعقابكم راجعين، واسألوه كما سألوه أن يثبِّت أقدامكم، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم قد كان وقد قُتل نبيهم، فلم يفعلوا كما فعلتم. (78)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة في قوله: ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ ) النصب لإجماع قرأة الأمصار على ذلك نقلا مستفيضًا وراثة عن الحجة. (79) &; 7-274 &; وإنما اختير النصب في" القول "، لأن " أن " لا تكون إلا معرفة، (80) فكانت أولى بأن تكون هي الاسم، دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانًا ونكرة أحيانًا، (81) ولذلك اختير النصب في كل اسم وِلى " كان " إذا كان بعده " أن " الخفيفة: كقوله: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [سورة العنكبوت: 24] (82) وقوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا [سورة الأنعام: 23] (83) فأمّا إذا كان الذي يلي" كان " اسما معرفة، والذي بعده مثله، فسواء الرفعُ والنصبُ في الذي ولى " كان ". فإن جعلت الذي ولى " كان " هو الاسم، رفعته ونصبت الذي بعده. وإن جعلت الذي ولى " كان " هو الخبر، نصبته ورفعت الذي بعده، وذلك كقوله جل ثناؤه: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى [سورة الروم: 10] إن جعلت " العاقبة " الاسم رفعتها، وجعلت " السوأى " هي الخبر منصوبةً. وإن جعلت " العاقبة " الخبر، نصبت فقلت: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى ، وجعلت " السوأى " هي الاسم، فكانت مرفوعة، وكما قال الشاعر: (84)
لَقَـدْ عَلِـمَ الأقْـوَام مَـا كَـانَ دَاءَهَـا
بِثَهْــلانَ إلا الخِـزْيُ مِمَّـنْ يَقُودُهَـا (85)
وروي أيضًا: " ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ"، نصبًا ورفعًا على ما قد بينت. ولو فُعل مثل ذلك مع " أن " كان جائزًا، غير أن أفصحَ الكلام ما وصفت عند العرب.
-------------------
الهوامش :
(76) هذا نص الآية؛ وكأن الصواب: "وما كان قولا لهم إلا أن قالوا"؛ ليبين عن أن"قولهم" خبر"كان" و"أن قالوا" اسمها. وانظر ص: 273 ، 274.
(77) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 5: 354.
(78) الأثر: 7993- سيرة ابن هشام 3: 118 ، 119 ، وهو تتمة الآثار التي آخرها: 7984.
(79) انظر استعمال"وراثة" ، و"موروثة" فيما سلف 6: 127 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.
(80) في المطبوعة: "لأن إلا أن لا تكون إلا معرفة" بزيادة"إلا" الأولى ، وهو فساد مستهجن ، والصواب من المخطوطة ، ولكن الناسخ كان قد أخطأ ، فغير وضرب ، فأخطأ الناشر الأول قراءة ما كتب.
(81) انظر معاني القرآن للفراء 1: 237.
(82) في المخطوطة والمطبوعة: "وما كان جواب..." بالواو ، وصحيح التلاوة ما أثبت.
(83) أثبت قراءة النصب كما ذكر الطبري ، والذي عليه مصحفنا وقراءتنا ، رفع"فتنتهم".
(84) لم أعرف قائله.
(85) سيبويه 1: 24 ، ولم ينسبه ، قال الشنتمري: "استشهد به على استواء اسم كان وخبرها في الرفع والنصب ، لاستوائهما في المعرفة. وصف كتيبة انهزمت ، فيقول: لم يكن داؤها وسبب انهزامها إلا جبن من يقودها وانهزامه. وجعل الفعل للخزي مجازًا واتساعًا ، والمعنى: إلا قائدها المنهزم الخزيان ، وثهلان: اسم جبل".