القول في تأويل قوله : لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
قال أبو جعفر: يعني بقوله: تعالى ذكره: (22) " لتبلون في أموالكم "، لتختبرن بالمصائب في أموالكم (23) =" وأنفسكم "، يعني: وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم (24) =" ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "، يعني: من اليهود وقولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ، وقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ، وما أشبه ذلك من افترائهم على الله=" ومن الذين أشركوا "، يعني النصارى=" أذى كثيرًا "، (25) والأذى من اليهود ما ذكرنا، ومن النصارى قولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله=" وإن تصبروا وتتقوا "، يقول: وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته=" وتتقوا "، يقول: وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم، فتعملوا في ذلك بطاعته=" فإن ذلك من عزم الأمور "، يقول: فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقيل: إن ذلك كله نـزل في فنخاص اليهودي، سيد بني قَيْنُقَاع، كالذي:-
8316 - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال عكرمة في قوله: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا "، قال: نـزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أبي بكر رضوان الله عليه، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينُقاع قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدُّه، وكتب إليه بكتاب، وقال لأبي بكر: " لا تَفتاتنَّ عليّ بشيء حتى ترجع ". (26) فجاء أبو بكر وهو متوشِّح بالسيف، فأعطاه الكتاب، فلما قرأه قال: " قد احتاج ربكم أن نمده "! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تفتاتنّ علي بشيء حتى ترجع "، &; 7-456 &; فكف، ونـزلت: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ . (27) وما بين الآيتين إلى قوله: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم "، نـزلت هذه الآيات في بني قينقاع إلى قوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ = قال ابن جريج: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم قال: " لتبلون في أموالكم وأنفسكم "، قال: أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم، فينظر كيف صبرهم على دينهم. ثم قال: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "، يعني: اليهود والنصارى=" ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا " فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، ومن النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب إذ يسمعون إشراكهم، (28) فقال الله: " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور "، يقول: من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به.
* * *
وقال آخرون: بل نـزلت في كعب بن الأشرف، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتشبّب بنساء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
8317 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا "، قال: هو كعب بن الأشرف، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم. فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار، فيهم محمد بن مسلمة، ورجل &; 7-457 &; يقال له أبو عبس. فأتوه وهو في مجلس قومه بالعَوَالي، (29) فلما رآهم ذعر منهم، فأنكر شأنهم، وقالوا: جئناك لحاجة! قال: فليدن إليّ بعضكم فليحدثني بحاجته. فجاءه رجل منهم فقال: جئناك لنبيعك أدراعًا عندنا لنستنفق بها. (30) فقال: والله لئن فعلتم لقد جُهدتم منذ نـزل بكم هذا الرجل! فواعدوه أن يأتوه عشاءً حين هدأ عنهم الناس، (31) فأتوه فنادوه، فقالت امرأته: ما طَرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب! قال: إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم.
(32) قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة: أنه أشرف عليهم فكلمهم، فقال: أترهَنُوني أبناءكم؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرًا. قال، فقالوا: إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال: " هذا رهينة وَسْق، وهذا رهينة وسقين "! (33) فقال: أترهنوني نسائكم؟ قالوا: أنت أجملُ الناس، ولا نأمنك! وأي امرأة تمتنع منك لجمالك! ولكنا نرهنك سلاحنا، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم. فقال: ائتوني بسلاحكم، واحتملوا ما شئتم. قالوا: فأنـزل إلينا نأخذ عليك وتأخذ علينا. فذهب ينـزل، (34) فتعلقت به امرأته وقالت: أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك. قال: لو وجدني هؤلاء نائمًا ما أيقظوني! قالت: فكلِّمهم من فوق البيت، فأبى عليها، فنـزل إليهم يفوحُ ريحه. قالوا: ما هذه الريح يا فلان؟ قال: هذا عطرُ أم فلان! امرأته. فدنا إليه بعضهم يشم رائحته، ثم اعتنقه، ثم قال: اقتلوا عدو الله! فطعنه أبو عَبس في خاصرته، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف، فقتلوه ثم رجعوا. فأصبحت اليهود مذعورين، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة! فذكّرهم النبي صلى الله عليه وسلم صَنيعه، وما كان يحضّ عليهم، ويحرض في قتالهم ويؤذيهم، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحًا، قال: فكان ذلك الكتابُ مع عليّ رضوان الله عليه.
* * *
----------------
الهوامش :
(22) في المطبوعة والمخطوطة"يعني بذلك تعالى ذكره" ، وسياق التفسير هنا يقتضي ما أثبت.
(23) انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف 2: 49 / 3: 7 ، 220 / 5: 339 / 7: 297 ، 235.
(24) انظر تفسير"أنفسهم" فيما سلف 6: 501.
(25) انظر تفسير"الأذى" فيما سلف 4: 374.
(26) كل من أحدث دونك شيئا ، ومضى عليه ولم يستشرك ، واستبد به دونك ، فقد فاتك بالشيء وافتات عليك به أوفيه. هو"افتعال" من"الفوت" ، وهو السبق إلى الشيء دون ائتمار أو مشورة.
(27) انظر أخبار فنخاص اليهودي في الآثار السالفة: 8300 - 8302.
(28) في المطبوعة: "ويسمعون إشراكهم" بالواو ، وفي المخطوطة ، هذه الواو كأنها (د) ، فآثرت أن أجعلها"إذ" ، لأنها حق المعنى.
(29) "العوالي" ، جمع عالية. و"العالية": اسم لكل ما كان من جهة نجد من المدينة ، من قراها وعمائرها إلى تهامة ، وما كان دون ذلك من جهة تهامة فهو"السافلة". وعوالي المدينة ، بينها وبين المدينة أربعة أميال ، وقيل ثلاثة ، وذلك أدناها ، وأبعدها ثمانية.
(30) استنفق بالمال: جعله نفقة يقضى بها حاجته وحاجة عياله.
(31) هدأ عنهم الناس: سكن عنهم الناس وقلت حركتهم وناموا. وفي المخطوطة: "حين هدى عنهم الناس" بطرح الهمزة ، وهو صواب جيد ، جاء في شعر ابن هرمة ، من أبياته الأليمة الموجعة:
لَيْـتَ السَّـبَاعَ لَنَـا كَـانَتْ مُجَــاوِرَةً
وَأَنَّنَــا لا نَـرَى مِمَّـنْ نَـرَى أَحَـدَا
إِنَّ السِّــبَاعَ لَتَهْــدَا عَـنْ فَرائِسِـهَا
وَالنَّــاسُ لَيْسَ بِهَــادٍ شَـرُّهُمْ أَبَـدَا
يريد: "لتهدأ" و"بهادئ شرهم".
(32) هذا بدأ سياق آخر للخبر ، منقطع عما قبله من خبر الزهري ، ولم يتم خبر الزهري ، بل أتم خبر عكرمة الذي أدخله على سياقه.
(33) "الوسق" كيل معلوم ، قيل: هو حمل بعير ، وقيل: ستون صاعًا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.
(34) قوله: "ذهب ينـزل" ، أي تحرك لينـزل ، و"ذهب" من ألفاظ الاستعانة التي تدخل على الكلام لتصوير حركة ، أو بيان فعل مثل قولهم: "قعد فلان لا يمر به أحد إلا سبه" ، أو "قعد لا يسأله سائل إلا حرمه" ، لا يراد به حقيقة القعود ، بل استمرار ذلك منه واتصاله ، وحاله عند رؤية الناس ، أو طروق السائل. واستعمال"ذهب" بهذا المعنى كثير الورود في كلامهم ، وإن لم تذكره كتب اللغة.