القول في تأويل قوله : مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها "، من يَصِرْ، يا محمد، شفعًا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، وهو " الشفاعة الحسنة " (51) =" يكن له نصيب منها "، يقول: يكن له من شفاعته تلك نصيب - وهو الحظ (52) - من ثواب الله وجزيل كرامته =" ومن يشفع شفاعة سيئة، يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو " الشفاعة السيئة " =" يكن له كِفل منها ".
يعني: بـ " الكفل "، النصيب والحظ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من " كِفل البعير والمركب "، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة. يقال منه: " جاء فلان مكتَفِلا "، إذا جاء على مركب قد وطِّئَ له -على ما بيّنا- لركوبه. (53)
* * *
وقد قيل إنه عنى بقوله: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نـزلت فيما ذكرنا، ثم عُمَّ بذلك كل شافع بخير أو شر.
* * *
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك، لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته، أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض، التي لم يجر لها ذكر قبل، ولا لها ذكرٌ بعد.
ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض.
10015 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة "، قال: شفاعة بعض الناس لبعض.
10016 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10017 - حدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال: من يُشَفَّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران، ولأن الله يقول: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها "، ولم يقل " يشفَّع ". (54)
10018 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: " من يشفع شفاعة حسنة "، كتب له أجرها ما جَرَت منفعتها.
10019 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سئل ابن زيد عن قول الله: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها "، قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان=" ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها "، قال: هما شريكان فيها، كما كان أهلها شريكين.
ذكر من قال: " الكفل ": النصيب.
10020 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها "، أي حظ منها=" ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها "، و " الكفل " هو الإثم.
10021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " يكن له كفل منها "، أما " الكفل "، فالحظ.
10022 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: " يكن له كفل منها "، قال: حظ منها، فبئس الحظ.
10023 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: " الكفل " و " النصيب " واحد. وقرأ: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [سورة الحديد: 28].
* * *
القول في تأويل قوله : وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: " وكان الله على كل شيء مقيتًا ".
فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا.
*ذكر من قال ذلك:
10024 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: " وكان الله على كل شيء مقيتًا " يقول: حفيظًا.
10025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " مقيتًا " شهيدًا.
10026 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد مثله.
10027 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: " مقيتًا " قال: شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا.
10028 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج: " وكان الله على كل شيء مقيتًا "، قال: " المقيت "، الحسيب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير.
*ذكر من قال ذلك:
10029 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: " وكان الله على كل شيء مقيتًا "، قال: " المقيت "، الواصب. (55)
وقال آخرون: هو القدير.
*ذكر من قال ذلك:
10030 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وكان الله على كل شيء مقيتًا "، أما " المقيت "، فالقدير.
10031 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وكان الله على كل شيء مقيتًا " قال: على كل شيء قديرًا،" المقيت " القدير.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال، قولُ من قال: معنى " المقيت "، القدير. وذلك أن ذلك فيما يُذكر، كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (56)
وَذِي ضِغْــنٍ كَــفَفْتُ النَّفْسَ عَنْـهُ
وَكُــنْتُ عَــلَى مَسَــاءتِهِ مُقِيتَـا (57)
أي: قادرًا. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:-
10032 -" كفى بالمرء إثما أن يُضِيعَ من يُقيت ". (58)
في رواية من رواها: " يُقيت "، يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله، فيقدّر له قوته. يقال= منه." أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة " و " قاته يقوته قياتةً وقُوتًا "، و " القوت " الاسم. وأما " المقيت " في بيت اليهوديّ الذي يقول فيه: (59)
لَيْــتَ شِــعْرِي, وَأَشْـعُرَنَّ إِذَا مَـا
قَرَّبُوهَـــا مَنْشُـــورَةً وَدُعِيــتُ (60) !
أَلِـيَ الْفَضْـلُ أَمْ عَـلَيَّ إذا حُوسِـبْتُ?
إِنِّــي عَــلَى الْحِسَــابِ مُقِيــتُ (61)
= فإن معناه: فإنّي على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى. (62)
----------------------
الهوامش :
(51) انظر تفسير"الشفاعة" فيما سلف 2: 31 ، 32 / 5: 382- 384 ، 395.
(52) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 472 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك.
(53) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135.
(54) الأثر: 10016- كان في المطبوعة: "كان له أجرها وإن لم يشفع ، لأن الله يقول: .." وهو نص ما في الدر المنثور 2: 187. وأثبت ما في المخطوطة. والظاهر أنه تصرف من السيوطي ، وتبعه ناشر المطبوعة الأولى. والصواب ما في المخطوطة ، إلا أنه ينبغي أن تقرأ"يشفع" الأولى في قول الحسن مشددة الفاء بالبناء للمجهول. ويعني الحسن: أن الشافع لأخيه إذا استجيبت شفاعته كان له أجران ، أجر عن الخير الذي ساقه إلى أخيه ، وأجر آخر هو مثل أجر المشفوع إليه في فعله ما فعل من الخير.
(55) يقال: "وصب الرجل على ماله يصب" (مثل: وعد يعد): إذا لزمه وأحسن القيام عليه.
(56) لم أجده للزبير ، بل وجدته لأبي قيس بن رفاعة ، مرفوع القافية في طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 243 ، ومراجعه هناك. ونسبه في الدر المنثور 2: 187 ، 188 إلى أحيحة ابن الجلاح الأنصاري.
(57) اللسان (قوت) ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 242 ، 243 والتعليق عليه هناك.
(58) الحديث: 10032- رواه أحمد في مسنده ، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رقم: 6495 ، 6819 ، 6828 ، 6842 ، والحاكم في المستدرك 1: 415 ، وهو حديث صحيح ، وروايته"يقوت".
(59) هو السموأل بن عادياء اليهودي.
(60) ديوانه: 13 ، 14 ، والأصمعيات: 85 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135 ، وطبقات فحول الشعراء للجمحي: 236 ، 237 ، اللسان (قوت) وغيرها. وقوله: "ليت شعري": أي ليتني أعلم ما يكون. وقوله: "وأشعرن" استفهام ، أي: وهل أشعرن. وقوله: "قربوها منشورة" يعني: صحف أعماله يوم يقوم الناس لرب العالمين. وفي البيت روايات أخر.
(61) يعني بالفضل: الخير والجزاء الحسن والإنعام من الله."أم على": أم على الإثم المستحق للعقوبة.
(62) هذا المعنى الذي قاله أبو جعفر ، هو قول أبي عبيدة ، وهو أحسن ما قيل في معنى"المقيت" في هذا البيت. وانظر اعتراض المعترضين على البيت ، واختلافهم في تفسيره في مادة (قوت) من لسان العرب.