الفاء للتفريع الذكري ، أي تفريع ذكر هذه الجمل على ذكر الجمل السابقة لأن الشأن أن تكون لما بعد الفاء مناسبة لِما قبلها تقتضي أن يذكر بعدها فيؤتى بالفاء للإشارة إلى تلك المناسبة ، كقوله تعالى : { ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } [ الزمر : 72 ] ، وإلا فإن تكذيب قوم نوح حصل قبل أن يقول لهم : { إن كان كبُر عليكم مقامي } [ يونس : 71 ] الخ ، لأنه ما قال لهم ذلك إلا وقد رأى منهم تجهم دعوته .
ولك أن تجعل معنى فعل { كذبوه } الاستمرار على تكذيبه مثل فِعل { آمنوا } في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله } [ النساء : 136 ] ، فتكون الفاء لتفريع حصول ما بعدها على حصول ما قبلها .
وأما الفاء التي في جملة : { فنجيناه } فهي للترتيب والتعقيب ، لأن تكذيب قومه قد استمر إلى وقت إغراقهم وإنجاء نوح عليه السلام ومَن اتبعه . وهذا نظم بديع وإيجاز معجز إذ رجع الكلام إلى التصريح بتكذيب قومه الذي لم يذكر قبل بل أشير له ضمناً بقوله : { إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبُر عليكم مقامي } [ يونس : 71 ] الآية ، فكان كرد العجز على الصدر . ثم أشير إلى استمراره في الأزمنة كلها حتى انتهى بإغراقهم ، فذكر إنجاء نوح وإغراق المكذبين له ، وبذلك عاد الكلام إلى ما عقب مجادلةَ نوح الأخيرة قومَه المنتهية بقوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } [ يونس : 72 ] فكان تفنناً بديعاً في النظم مع إيجاز بهيج .
وتقدم ذكر إنجائه قبل ذكر الإغراق الذي وقع الإنجاء منه للإشارة إلى أن إنجاءه أهم عند الله تعالى من إغراق مكذبيه ، ولتعجيل المسرة للمسلمين السامعين لهذه القصة .
والفلك : السفينة ، وتقدم عند قوله تعالى : { والفلك التي تجري في البحر } في سورة [ البقرة : 164 ].
والخلائف : جمع خليفة وهو اسم للذي يخلف غيره . وتقدم عند قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } في سورة [ البقرة : 30 ]. وصيغة الجمع هنا باعتبار الذين معه في الفلك تفرع على كل زوجين منهم أمة .
وتعريف قوم نوح بطريق الموصولية في قوله : وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } للإيماء إلى سبب تعذيبهم بالغرق ، وأنه التكذيب بآيات الله إنذاراً للمشركين من العرب ولذلك ذيل بقوله : { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } ، أي المنذرين بالعذاب المكذبين بالإنذار .
والنظر : هنا نظر عين ، نزل خبرهم لوضوحه واليقين به منزلة المشاهد .
والخطاب ب { انظر } يجوز أن يكون لكل من يسمع فلا يراد به مخاطب معين ويجوز أن يكون خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم فخصّ بالخطاب تعظيماً لشأنه بأن الذين كذبوه يوشك أن يصيبهم من العذاب نحو مما أصاب قوم نوح عليه السلام وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من أذاهم وإظهار لعناية الله به .