عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة { وقال فرعون } [ يونس : 79 ] ، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر ، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله : { إن كنتم آمنتم بالله }. والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم ، وأمْرُ مَن عداهم الذين خاف ذريتُهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يُجبِّنوا أبناءهم ، وأن لا يخشوا فرعون ، ولذلك قال : { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا }.
والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله حقاً كما أظهرتْه أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له .
وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهابَ قلوبهم بجعل إيمانهم معلقاً بالشرط محتمل الوقوع ، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم ، وإنما جَعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتَهم ، فلا تغتفر فيها التقية حينئذٍ . وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال ، وعمار ، وأبي بكر ، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى ، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ].
فتقديم المجرور على متعلقه في قوله : { فعليه توكلوا } لإفادة القصر ، وهو قصر إضافي يفسره قوله : { على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } [ يونس : 83 ] ، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون .
والتوكلُ : تقدم آنفاً في قصة نوح .
وجملة : { إن كنتم مسلمين } شرط ثان مؤكد لشرط { إن كنتم آمنتم بالله } ، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم ، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام ، ومبين أيضاً للشرط الأول ، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله ، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق ، فَحصَل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر .
وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط ، والإيمان : تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي ، ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإسلام ، والإسلامُ : النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعاً إلا مع الإيمان ، فالإيمان انفعال قلبي نفساني ، والإسلام عمل جسماني ، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتّباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة ، وإذ لا يكون القول حقاً إلا إذا وافق ما في النفس ، قال تعالى : { قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم }
[ الحجرات : 14 ]. وقد ورد ذلك صريحاً في حديث سؤال جبريل في «الصحيحين» .
وليس المراد أنهم إن لم يتوكلوا كانوا مؤمنين غير مسلمين ، ولا أنهم إن توكلوا كانوا مسلمين غير مؤمنين ، لأن ذلك لا يساعد عليه التدين بالدين . ومن ثم كان قوله : { فعليه توكلوا } جواباً للشرطين كليهما . أي يقدر للشرط الثاني جواب مماثل لجواب الشرط الأول . هذا هو محمل الآية وما حاوله كثير من المفسرين خروج عن مهيع الكلام .