قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
لا جرم إذ انتهى الاستدلال والمجادلة أن يُنتقل إلى النداء بين ظهرانيهم بظهور الحق فيستغنى عن مجادلتهم .
وأعيد فعل { قل } للاهتمام بالمقول كما أشرنا إليه آنفاً .
والتأكيد لتحقيق هذا الخبر .
والتعبير عن اسم الله بلفظ الرب وإضافته إلى ضمير المتكلم للإِشارة أن الحق في جانبه وأنه تأييد من ربه فإن الرب ينصر مربوبه ويؤيده . فالمراد بالربوبية هنا ربوبية الولاء والاختصاص لا مطلق الربوبية لأنها تعمّ الناس كلهم .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للدلالة على الاختصاص دون التقوِّي لأن تقوِّي الجملة حصل بحرف التأكيد . وهذا الاختصاص باعتبار ما في { يقذف بالحق } من معنى : الناصر لي دونَكم فماذا ينفعكم اعتزازكم بأموالكم وأولادكم وقوتكم .
والقذف : إلقاء شيء من اليد ، وأطلق على إظهار الحق قذف على سبيل الاستعارة ، شبه إعلان الحق بإلقاء الحجر ونحوه . والمعنى : أن ربي يقذفكم بالحق .
أو هو إشارة إلى قوله : { بل نقذف بالحق على الباطل } [ الأنبياء : 18 ] وعلى كل فهو تعريض بالتهديد والتخويف من نصر الله المؤمنين على المشركين .
وتخصيص وصف { علام الغيوب } من بين الأوصاف الإِلهية للإِشارة إلى أنه عالم بالنوايا ، وأن القائِل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترىء على الله بادعائه باطلاً أنه أرسله إليكم ، فالإِعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدتِه وهو العِلم بالحكم الخبري .
ويجوز أن يكون معنى : { يقذف بالحق } يرسل الوحي ، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى : { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } [ غافر : 15 ] ويكون قوله { علام الغيوب } إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون : لولا أنزلت علينا الملائكة دون محمد .
وارتفع { علام } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو علاّم الغيوب ، أو على أنه نعت لاسم { إنّ } إما مقطوع ، وإما لمراعاة محل اسم { إنّ } حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق . وقال الفراء : رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب . ومثَّله بالبدل في قوله تعالى : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] .
وقرأ الجهور { الغيوب } بضم الغين . وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في بَاء «بيوت» .